لقد اختار الله عزّ وجل بيته الحرام وشرّفه بأن جعله مثابةً للناس؛ يثوبون إليه بأرواحهم وأبدانهم؛ فقال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة:125].
ومعنى المثابة بإيجاز: أن النّاس يترددون إليه بشوقٍ وبلا ملل، ويبذلون في سبيله أنفس ما يملكون، طلبًا للأجر والمثوبة ومحو السيئات، ولا ينصرفون عنه إلا وهم راغبون في العود إليه.
والمثابة للبيت العتيق تكون بالجسد والقلب، فيصدق الوصف بالرجوع من زائريه بالجسد أو بالحنين منهم، وممن عجز عن القدوم.
هذا مضمون ما ذكره الأئمة حول معنى "المثابة"، حيث قالوا في تفسير الآية المذكورة: إن الله تعالى يذكر شرف البيت، وما جعله موصوفاً به شرعاً وقدراً من كونه مثابة للناس: أي جعله محلاً تشتاق إليه الأرواح وتحنّ إليه، ولا تقضي منه وطراً ولو ترددت إليه كل عام؛ استجابةً من الله تعالى لدعاء خليله إبراهيم -عليه السلام- في قوله: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37].
فـ(المثابة) بمعنى المرجع؛ أي يثوب الناس إليه، ويرجعون إليه من كل أقطار الدنيا سواء ثابوا إليه بأبدانهم، أو بقلوبهم، فالذين يأتون إليه حجّاجاً، أو معتمرين يثوبون إليه بأبدانهم؛ والذين يتّجهون إليه كل يوم بصلواتهم يثوبون إليه بقلوبهم فإنهم لا يزالون يتذكرون هذا البيت في كل يوم وليلة؛ بل استقباله من شروط صحة صلاتنا.
وقد جاء اختيار المثابة على نحو القصد والمزار؛ لأن لفظ المثابة يتضمّن هذا وزيادة فإنه لا يقال: ثاب المرء إلى الشيء إلا إذا كان قصَده أولاً ثم رجع إليه.
ولما كان البيت معبدًا وشعارًا عامًا؛ كان الناس الذين يدينون بزيارته والقصد إليه للعبادة يشتاقون الرجوع إليه، فمن سهل عليه أن يثوب إليه فعل، ومن لم يتمكّن من الرجوع إليه بجثمانه؛ رجع إليه بقلبه ووجدانه، وكونه مثابةً للناس أمر معروف في الجاهلية والإسلام، وهو يصدق برجوع بعض زائريه إليه، وحنين غيرهم وتمنيهم له عند عجزهم عنه.[انظر: تفسير ابن كثير، وتفسير المنار، وتفسير العثيمين].
وفي ظل قرار حكومة المملكة العربية السعودية تقليص عدد الحجاج لهذا العام ١٤٤١هـ والذي يأتي ضمن جهودها الرامية للحدّ من انتشار فايروس كورونا، وتعذّر قدوم كثير من الناس إلى بيت الله الحرام بأبدانهم لأداء نسك الحج هذا العام بسبب ذلك: تبقى مثابة القلوب والأرواح -بفضل الله تعالى- متاحة لكل أحد.
فما على العبد سوى أن يحتسب الأجر على الله تعالى ويصدق في رغبته؛ ليكرمه ربه عز وجل بجزيل العطايا وأعظم الهبات.