مفهوم القبلة ومكانتها في الإسلام
القبلة اسم للحالة التي عليها المقابل للشيء، ويقصد بها شرعا: ما يتجه إليه المسلم في صلاته، وهو بالإجماع الكعبة المشرفة، يقول الله –عز وجل-:(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)(البقرة:144).
وقد عظم الله أمر هذه القبلة، وجعل لها شأنا عظيما في الإسلام؛ ومما يدلنا على ذلك الأمور التالية:
1- أن استقبالها من شروط صحة الصلاة، يقول الله –تعالى-:( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)(البقرة:144).
2- سيد المجالس ما كان بمحاذاة القبلة، يقول –صلى الله عليه وسلم- كما في المعجم الكبير للطبراني:(إنّ لكلّ شيءٍ سيدًا، وإنّ سيد المجالس قبالة القبلة).
3- شرع الله عبادة الطواف حولها، يقول –سبحانه-:(وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)(الحج:29).
4- أنها قبلة المسلمين في قبورهم –أيضا-، يقول عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- في سرد كبائر الذنوب: والإلحاد في البيت الحرام قبلتكم أحياءً وأمواتًا.
5- خصها الله –تعالى- بإضافتها إلى نفسه الشريفة، قال –تعالى-:(وَطَهِّرْ بَيتِيَ لِلطَّائِفِينَ)(الحج:26).
6- عصمة دم مستقبل القبلة، يقول –صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح البخاري:( مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا؛ فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَلاَ تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ).
7- إضافتها إلى المسلمين أمة محمد –صلى الله عليه وسلم-، وهي خير أمة أخرجت للناس، ففي الحديث السابق(وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا).
8- النهي عن استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة، يقول –صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح البخاري:( إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ فَلاَ تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ ، وَلاَ تَسْتَدْبِرُوهَا وَلَكِنْ شَرِّقُوا ، أَوْ غَرِّبُوا).
9- النهي عن التفل تجاه القبلة، يقول –صلى الله عليه وسلم- كما في سنن أبي داود:( مَنْ تَفَلَ تُجَاهَ الْقِبْلَةِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَفْلُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ).
10- جعلها الله هداية للمؤمنين، يقول الله –تعالى-:(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ)(آل عمران:96).
11- جعلها الله بقاء للدين، نقل عن الحسن أنه تلا هذه الآية(جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ)(المائدة:97)، ثم قال: لا يزال الناس على دين ما حجوا البيت واستقبلوا القبلة.
12- جعلها الله مظهرا لوحدة المسلمين واجتماعهم، ويتبين ذلك جليا حينما يتجه المسلمون إليها من كل أنحاء العالم وقت أداء صلواتهم المفروضة.
فتنة تحويل القبلة وثبات المؤمنين وانكشاف حقيقة المنافقين
إن رسولنا –عليه أتم الصلاة والتسليم- صلى إلى جهة بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا بعد هجرته إلى المدينة، ولكن كان يهوى ويتمنى أن تكون قبلته الكعبة؛ وذلك لسببين:
1-مخالفة اليهود، وكراهة موافقتهم؛ لأنهم كانوا يقولون له مستهزئين:تتبع قبلتنا، وتخالفنا في ديننا.
2-أنها كانت قبلة أبيه إبراهيم -عليه السلام-.
وبعد الفترة المذكورة حقق الله أمنيته، وأنزل آية تحويل القبلة؛ فقال -جل وعلا-(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ)(البقرة:144)، فكان أول صلاة صلاها رسولنا -صلى الله عليه وسلم- نحو البيت صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن صلى معه، فمر على أهل مسجد وهو راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قِبَل مكة؛ فداروا -وهم في صلاتهم- إلى جهة البيت، وقد انتشر الخبر في آفاق المدينة، فلما سمعت اليهود بذلك ثارت غيرتهم، واشتعل حقدهم الدفين؛ فباتوا يشككون في النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويلقنون المؤمنين شبهات في صحة نبوته ودينه الذي جاء به؛ ومما قالوه:( لو كان نبيًا ما ترك قبلة الأنبياء قبله)، ومن ذلك –أيضا-:(لو كان نبيًا ما كان يفعل اليوم شيئًا وغدا خلافه)؛ لكن الله -سبحانه وتعالى- تصدى لهذه الفتنة، وأجاب عن شبهات اليهود والمنافقين بجواب شاف أغلق به الباب الذي كان لهم مشرعا للتشكيك في الرسول -صلى الله عليه وسلم- ودين الله، فقال –تعالى-(سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ* وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ…) إلى آخر الآيات(البقرة:142-143).
يقول السعدي -رحمه الله- عن هذه الفتنة: وكان صرف المسلمين إلى الكعبة، مما حصلت فيه فتنة كبيرة، أشاعها أهل الكتاب، والمنافقون، والمشركون، وأكثروا فيها من الكلام والشبه، فلهذا بسطها الله –تعالى-، وبينها أكمل بيان، وأكدها بأنواع من التأكيدات، التي تضمنتها هذه الآيات.
منها: الأمر بها ثلاث مرات، مع كفاية المرة الواحدة.
ومنها: أن المعهود أن الأمر إما أن يكون للرسول؛ فتدخل فيه الأمة تبعا، أو للأمة عموما، وفي هذه الآية أمر فيها الرسول بالخصوص في قوله:(فَوَلِّ وَجْهَكَ)، والأمة عموما في قوله:(فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) .
ومنها: أنه رد فيه جميع الاحتجاجات الباطلة، التي أوردها أهل العناد وأبطلها شبهةً شبهةً، كما تقدم توضيحها- يعني في تفسيره.
ومنها: أنه قطع الأطماع من اتباع الرسول-صلى الله عليه وسلم- قبلة أهل الكتاب.
ومنها قوله:(وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ)(البقرة:149) فمجرد إخبار الصادق العظيم كاف شاف، ولكن مع هذا قال:(وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) .
ومنها: أنه أخبر – وهو العالم بالخفيات – أن أهل الكتاب متقرر عندهم صحة هذا الأمر؛ ولكنهم يكتمون هذه الشهادة مع العلم.اهـ
من نماذج تعظيم السلف للقبلة
1- قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون أن يستقبلوا القبلة بغائط أو بول أو يستدبروها؛ ولكن عن يمينها، أو عن يسارها.
2- عن أشعث، عن الحسن البصري: أنه كره أن يبزق تجاه القبلة، قال: وكان ابن سيرين يكره القبلتين جميعًا.(أي يكره أن يبزق تجاه القبلتين)
3- عن إبراهيم أنه قال: كان يكره أن يبزق الرجل بين يديه في الصلاة، أو عن يمينه، وقال: ابزق عن شمالك، أو تحت قدمك.
4- عن سليمان بن موسى أنه قال: إنّ لكل شيء شرفًا، وأشرف المجالس ما استقبل به القبلة، وقال: ما رأيت سفيان يجلس إلا مستقبل القبلة.