1-(إن المسلمين ممن نأت بهم الديار عن البلد الحرام يشتاقون لرؤية الكعبة، ويتمنون لو تتاح لهم الفرصة فيأتون مكة ويطوفون بالبيت العتيق، ويأنسون بالبقاء فيها أياماً، وبعضهم إذا رأى صورة الكعبة بكى شوقاً، وتقطع قلبه لوعة وحسرة، وإذا قابل أحداً من المسلمين ممن رأى الكعبة قَبَّل عينيه وسر به سروراً بالغاً.
ألا تستدعي هذه الأمور أن يستشعر المقيم والحال بالبلد الحرام المنة التي امتن الله بها عليه، والنعمة التي يتمناها كثير من الناس ولا يجدونها.
لقد أُخرج النبي الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- من مكة كارهاً وهو يقول: “ والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت“، فكيف بمن ولد على أرض مكة وشرب من زمزمها، وترعرع فيها، وعاش حياته لا يخرجه منها أحد، ولا يمنعه من سكناها ظالم).
2-(كان السلف الصالح يقدرون حرمة البيت، ويعظمونه في نفوسهم تعظيماً عجيباً، حتى إن منهم من تحرج من سكنى مكة خشية الوقوع في المعاصي، قال ابن رجب: وكان جماعة من الصحابة يتقون سكنى الحرم خشية ارتكاب الذنوب فيه، وقال: روي عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: (لأن أخطئ سبعين خطيئة -يعني بغير مكة- أحب إلى من أن أخطئ خطيئة واحدة بمكة .. ).
وكيف لا يخشى العبد الوقوع في الخطيئة في البلد الحرام، والله تعالى يقول: { ومن يرد فيه بإلحاد بظلمٍ نذقه من عذابٍ أليم}( الحج : 25)، والملحد في الحرم جرمه عظيم وعاقبته وخيمة، عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: ” أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه “رواه البخاري، وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ في قوله ـ عز وجل ـ :{ ومن يرد فيه بإلحاد نذقه من عذابٍ أليم }(25) قال: (( لو أن رجلاً هَمَّ فيه بإلحاد وهو بِعَدن أبْيَنَ لأذاقه عذاباً أليماً).
3- (ومن العجب أن أهل الجاهلية كان لهم نصيب من تعظيم البلد الحرام، ورعاية حقوق البيت مستشعرين مكانته، وإليك صوراً من ذلك:
قال الحموي: وقال حرب بن أمية: ودعا الحضرمي إلى نزول مكة – وكان الحضرمي قد حالف بني نفاثة وهم حلفاء حرب بن أمية ، وأراد الحضرمي أن ينزل خارجاً من الحرم وكان يكنى أبا مطر- فقال حرب :
أبا مَطَر هَلُمّ إلى الصلاح* فيكفيك الندامى من قريش
وتنزل بَلْدة عزَّت قديماً* وتأمن أن يزورك ربُّ جيش
فتأمن وسطهم وتعيش فيهم* أبا مطر هُديت بخير عيش
ثم يقول الحموي: ألا ترى كيف يؤمنه إذا كان بمكة) .
ومن مظاهر تعظيمهم للبيت أنهم لما أرادوا تجديد بنائه حرصوا حرصاً شديداً على تطييب النفقة وكونها من حلال، فقد روى ابن إسحاق في السيرة أن أبا وهب ابن عمرو قال لقريش: لا تدخلوا فيه من كسبكم إلا الطيب، ولا تدخلوا فيه مهر بغي ولا بيع ربا، ولا مظلمة لأحد من الناس؛ ولذلك قصرت بهم النفقة في بناء البيت كما قال -صلى الله عليه وسلم- لعائشة- رضي الله عنها-: إن قومك قصرت بهم النفقة … الخ يعني حين بنائهم البيت، فقصروه عن قواعد إبراهيم -عليه السلام- من جهة الحِجْر.
ومن مظاهر التعظيم عند قريش في الجاهلية أنهم فرضوا على العرب قاطبةً أن يطرحوا أزواد الحل إذا دخلوا الحرم، وأن يخلو ثياب الحل ويستبدلوا بها ثياب الحرم، إما شرىً وإما عارية وإما هبة؛ فإن وجدوا ذلك وإلا طافوا بالبيت عرايا.
وهذه امرأة في الجاهلية توصي ابناً لها بتقديس الحرم وتعظيم حرمته فتقول:
أَبُنَيّ لا تَظلم بمكة لا الصغير ولا الكبير
أَبُني من يظلم بمكة يلق آفـات الشرور
أبني قد جربتها فوجدت ظالـمها يبور
ومن تعظيم أهل الجاهلية للبيت أن الرجل يرى فيه قاتل أبيه فلا يثأر منه ولا يزعجه، قال القرطبي : فكانوا في الجاهلية من دخله ولجأ إليه أمن من الغارة والقتل
فإذا كان هذا حال أهل الجاهلية فمن المفارقات العجيبة أن يجهل كثير من المسلمين اليوم حقوق البلد الحرام، ويخفّ تعظيمه في قلوبهم، ويرتكب فيه ما لا يمكن أن يصدر من معظم ومجلّ لأعظم بقعة على وجه الأرض.
وبينما الرسول صلى الله عليه وسلم– ومن بعده من السلف الصالح يحرصون على تطهير مكة من الشرك والمعاصي، ومن الأنجاس والأدناس، إذ إن بعض الناس اليوم وقعوا في مشابهة أهل الجاهلية وارتكبوا ما ينافي التعظيم الواجب عليهم، وجلبوا فيها عظائم الأمور، ومنكرات الأفعال من صرف شيء من العبادة لغير الله، كالذبح عند بناء المساكن اتقاء لشر الجن بزعمهم، ومن إتيان السحرة والمشعوذين، ومن ترك للصلوات وتهاون في أدائها، ومن أدعية وأذكار مبتدعة تروج وتنشر بين العوام، ومن احتفالات بدعية وإحياء ليالٍ موسمية غير مشروعة تقرباً إلى الله، ومن تقديس وتعظيم لبعض المواقع والمغارات والغيران والآبار مما لم يرد الشرع بتقديسه ولا تعظيمه، ومن ارتكاب للفواحش وشرب للمسكرات وتعاطٍ للمخدرات ومن بيع للمحرمات، كأشرطة الفيديو الماجنة والأغاني المحرمة، أو ما هو وسيلة إلى الحرام كالأطباق الفضائية الداعية إلى الفساد، ومن جلسات شائنة، وسهرات آثمة مع رفقاء السوء تقضي فيها الأوقات في ارتكاب المحرمات إلى غير ذلك مما لا يليق بالمسلم فعله في أي مكان، فضلاً عن أن يرتكبه في البلد الحرام.
وعجباً لحال المستهين بحرمة هذا المكان، كيف يجرؤ على ذلك؟! فالسيئة في حرم الله وبلده وعلى بساطه آكد وأعظم منها في طرف من أطراف الأرض.
فالمسئولية إذاً على ساكني البلد الحرام أعظم من غيرهم ، وتحليهم بالقدوة الحسنة أولى وأجدر ممن سواهم، وهذا مما يدعوهم إلى دراسة حال السلف الصالح، وكيف كانوا يعظمون البيت حق التعظيم؟ مستشعرين أن ذلك من تقوى القلوب كما قال ـ عز وجل ـ : { ذلك ومن يعظم شعائر اله فإنها من تقوى القلوب} ( الحج : 32) .
قال الشيخ ابن سعدي ـ رحمه الله ـ : فتعظيم شعائر الله صادر من تقوى القلوب ، فالمعظم لها يبرهن على تقواه وصحة إيمانه لأن تعظيمها تابع لتعظيم الله وإجلاله.
يجب على المسلمين عامة وسكان مكة خاصة تعظيم البلد الحرام واحترامها وتقديسها، وإن التعظيم الحقيقي له يدعو إلى التأسي والتشبه بسلفنا الصالح، والسير على نهجهم وسلوك طريقهم في تعظيم وإجلال ما عظّم الله على الوجه اللائق الصحيح، وليس التعظيم أن يقوم المسلم بأشياء شكلية وأعمال ظاهرية لم يأت بها الشرع، ولم يفعلها السلف الصالح -رضوان الله عليهم-؛ فقد وُجد عند عوام الناس اليومَ بعضُ الاعتقادات الباطلة والعادات المخالفة للشرع، جعلتهم يقومون بأداء عبادات محدثة يتقربون بها إلى الله بزعمهم، ويقصدون بها التعظيم والإجلال من غير مستند شرعي لذلك، وإليك بعض صور التعظيم غير الشرعي الذي يقوم به بعض المسلمين -هداهم الله- :
- قصد بعض الأماكن بالزيارة للتعبد بالصلاة والدعاء والتبرك وغيرها.
- التبرك بالماء الذي تغسل به الكعبة والاستحمام به.
- التبرك بثوب الكعبة بأخذ قطعة من قماشها الذي كسيت به والاحتفاظ بها، والاستشفاء بها، أو بالاعتداء عليه بالقص والتقطيع.
- مسح حلقات أبواب المسجد الحرام وجدران الكعبة، إلصاق الوجه واليدين عليها – في غير الملتزم- تبركاً.
- اعتقاد أن ماء زمزم إذا نقل إلى بلد آخر تغير طعمه، وأنه ينبغي تقطيره في فم الميت عند احتضاره ليختم له بخير، أو يغسل به الكفن.
- الخروج من المسجد الحرام بعد طواف الوداع على القهقرى.
- اعتقاد أن وقفة عرفة يوم الجمعة تعدل اثنتين وسبعين حجة.
- تخصيص أدعية لكل شوط من أشواط الطواف والسعي وعند البدء فيهما، وعند مقام إبراهيم وغيرها مما لم يرد فيه أدعية مخصوصة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
- اعتقاد أن مجرد النظر إلى الكعبة عبادة، وهذا لم يثبت فيه حديث صحيح.
- تقبيل جوانب الكعبة، والركنين الشاميين، ومقام إبراهيم والتمسح بها، روى ابن جرير بإسناده والأزرقي عن قتادة في قوله تعالى: { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} أنه قال: إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه.
- الدعاء تحت الميزاب بقولهم” اللهم أظلني في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك “، وهذا لم يثبت شرعا.
- التبرك بالمطر النازل من الكعبة.
- ما يشاع على ألسنة العوام والجهال من أن من دخل الكعبة لا يجوز له أن يمشي على الأرض حافياً، ولا أن يحكي ما رآه في الكعبة، ولا أن ينظر إلى سقفها، ومن نظر إلى سقفها لابد أن يحصل له العمى، ونحو ذلك من الأوهام الخيالية والخرافات التي لا أصل لها.
ومما يجعل بعض هؤلاء يقومون ببعض هذه العبادات ويعتقدون ما لا يثبت انتشار الأحاديث الموضوعة والضعيفة بينهم، يعتمدون عليها في تأييد عملهم، ويحتجون بها على أفعالهم.
وإليك بعض هذه الأحاديث المسطرة في بعض الكتب والدائرة على الألسن؛ وهي ليست بحجة عند علماء الحديث:
- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ” ينزل الله -عز وجل- على هذا البيت كل يوم وليلة عشرين ومائة رحمة، ستون منها للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين”، وهو حديث ضعيف.
- “من صبر على حر مكة باعد الله عنه حر جهنم”، قال أبو جعفر العقيلي : لا أصل له
- “سفهاء مكة حشو الجنة”، لا أصل له، سئل عنه الحافظ ابن حجر فقال: لم أقف عليه.
- عن عائشة -رضي الله عنهما- أنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ” النظر إلى الكعبة عبادة “، وهو حديث ضعيف.
- ” النائم في مكة كالقائم في غيرها”، وهذا يدور على ألسنة بعض العوام، ولا أصل له.
- ” إن سفينة نوح طافت بالبيت، فصلت ركعتين”، وهو ضعيف.
- ” من دخل البيت دخل في حسنة وخرج من سيئة مغفوراً له “، وهو ضعيف.
ومن هذه الأحاديث غير الصحيحة التي لا زمام لها ولا خطام ( طواف سبعة أشواط في نهاية الأسبوع يكفر خطاياه، فسبع تكفرها سبع ) و ( وعمرة في نهاية العام تكفر سيئات العام )، و( والكفن المغسول بزمزم يغفر لصاحبه ).
ومع عظم جرم الكذب على النبي -صلى الله عليه وسلم- وشناعة نشره فلا يخفى ما لإشاعة مثل هذه الأحاديث من أثر في انتشار البدع والمحدثات، وغياب التعظيم الحقيقي المطلوب في الشرع، واستبدالٍ به اعتقادات فاسدة وأعمال شكلية جوفاء لا فائدة فيها ولا غناء.
فعلى المسلم أن يعظم ما عظمه الله ورسوله بالطرق الشرعية الصحيحة، وأن يحذر من التعدي على حدود الله، وبتعظيم ما لم يؤمر بتعظيمه، أو باختراع طرق للتعظيم ما أنزل الله بها من سلطان؛ إذ لا تكفي دعوى الإخلاص وحسن النية حتى تقرن بصدق المتابعة وحسن الموافقة لهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وسنته.