إن التربية على تعظيم بلد الله الحرام من أهم الأمور التي ينبغي الاهتمام بها لكل من يسعى إلى غرس تعظيم مكة وحبها واحترامها في نفوس ساكنيها ليصل ذلك عبر أجيال متعاقبة إلى أن يكون منهجا وسلوكا يجتمع حوله المجتمع المكي ويتحرك من خلاله الإنسان فيرقى بنفسه؛ بأن يتعلم فضائل هذا البلد الحرام، ويعمل بما تعلمه من ذلك، وتؤثر عظمة المكان في سائر تصوراته وسلوكه، ويربي من ولاه الله أمره من أهله وأولاده وطلابه على ذلك.
1- الخطاب المباشر للتعريف بخصائصه وأدب الإقامة فيه أو الدخول إليه:
وهو ما فعله الرسول- صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح فقد روى البخاري ومسلم بأسانيدهما عن أبي شُرَيح العدوي -رضي الله عنه- أنه قال لعمرو بن سعيد- وهو يبعث البعوث إلى مكة-: ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولًا قام به النبي – صلى الله عليه وسلم- الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به: حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس؛ فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فيها فقولوا: إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم؛ وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب).
2- الزجر عن الإلحاد فيه:
قال الله – تعالى-:﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم﴾[الحج:25].
هذا الزجر مما يكبح النفس ويمنعها من الوقوع في الشهوات المحرمة، التي يزداد جرمها باقترافها عند بيت الله تعالى وفي حرمه المعظم، كما قال الضحاك بن مزاحم في قوله: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ﴾: إن الرجل ليهم بالخطيئة بمكة وهو في بلد آخر ولم يعملها فتكتب عليه.
3- الترغيب في الاستمتاع بالعبادة عند البيت:
كما روى ابن أبي شيبة بسنده عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما- أنه قال: قال رسول الله e: (اِسْتَمْتِعُوْا بِهَذَا البَيْتِ فَقَدْ هُدِمَ مَرتين، ويُرْفَعُ في الثالثةِ).
هذا البيت بني لغاية قصوى، ولمهمة كبرى، هي عبادة الله – عز وجل- بكل ما أذن الله فيه، وأهم ذلك الطواف، فقد ورد عن عليٍّ -رضي الله عنه- أنه قال: (استكثروا من الطواف بهذا البيت ما استطعتم، من قبل أن يحال بينكم وبينه).
فينبغي للمجتمع المكي أن يولي مزيد عناية بتنشئة الأسرة المكية على القيم التي تعزز مكانة هذا البلد في نفوسهم ونفوس من يفد إليهم، قال ابنُ رُشَيدٍ الفِهْريُّ في رحلته المكية واصفًا أطفالَ مكةَ، وكيف كانت تربيةُ أولياءِهم لهم، وتدريبُهم على إحسانِ وفادةِ المعتمرِ والحاجِّ، قال: فوافينا مكة – شرَّفها الله – ضُحَاءَ يومِ السبت حامدين للهِ –تعالى- على تسهيلِ المسير، وتيسيرِ العسير، فتلقَّانا أهلُ مكةَ وأطفالُها متعلقين بالناس؛ ليعلموهم المناسكَ ويهدوهم المسالك، قد دُرِب صبيانُهم على ذلك، وحفظوا من الأدعية والأذكار ما يحسن هنالك).
1- فضل الطواف بالبيت العتيق ومسح الركنين:
ففي سنن الترمذي عن ابن عبيد بن عمير عن أبيه أنه قال: إن ابن عمر – رضي الله عنهما- كان يزاحم على الركنين زحاما ما رأيت أحدا من أصحاب النبي – صلى الله عليه و سلم- يفعله؛ فقلت يا أبا عبد الرحمن: إنك تزاحم على الركنين زحاما ما رأيت أحدا من أصحاب النبي – صلى الله عليه و سلم- يزاحم عليه، فقال: إنْ أفعل، فإني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يقول: (إنّ مسحهما كفارة للخطايا)، وسمعته يقول: (من طاف بهذا البيت أسبوعا فأحصاه كان كعتق رقبة)، وسمعته يقول: (لا يضع قدما ولا يرفع أخرى إلا حط الله عنه خطيئة وكتب له بها حسنة).
2- الصلاة في جوف الكعبة والحجر:
ففي سنن أبي داود عن عائشة – رضي الله عنها- أنها قالت: كنتُ أحبُّ أن أدخل البيت فأصلي فيه، فأخذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم- بيدي، فأدخلني في الحِجْر، فقال:( صل في الحِجْر إذا أردت دخول البيت؛ فإنما هو قطعة من البيت، فإن قومك اقتصروا حين بنوا الكعبة فأخرجوه من البيت).
3- الصلاة خلف مقام إبراهيم:
في صحيح مسلم عن جابر – رضي الله عنه- أنه قال: (لما قدم النبي – صلى الله عليه وسلم- مكة دخل المسجد فاستلم الحَجَر ثم مضى على يمينه فرمل ثلاثا، ومشى أربعا، ثم أتى المقام فقال: ﴿ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى﴾ فصلى ركعتين والمقام بينه وبين البيت، ثم أتى الحجر بعد الركعتين فاستلمه، ثم خرج إلى الصفا أظنه قال: ﴿ إن الصفا والمروة من شعائر الله﴾).
4- فضل الحج:
في الصحيحين عن أبي هريرة – رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: (من حج هذا البيت، فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه).
5- فضل العمرة:
في الصحيحين عن أبي هريرة – رضي الله عنه- أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة).
إن التربية على تعظيم البلد الحرام ينبغي أن يثمر استقامة وصلاحا للنفس وَفق مراد الله – تعالى-؛ وبذلك يحصل تصحيح في الجوانب التالية:
– في التصورات والعقائد والإيمان بعظمة هذا البلد في صورة وعي يتجذر في نفس المتربي على عظمته تحمله على اهتبال تلك الفرص السانحة في هذا البلد الحرام على المسابقات في الخيرات.
-في الإرادات والمشاعر؛ فتنعقد العزائم، وتصح الاتجاهات نحو معالي الأمور ومحاسنها؛ لأنها هي المنسجمة مع عظمة هذا البلد الأمين الذي يربي على تلك الفضائل الباهرة، والثمار اليانعة.
-في السلوك؛ ويقتضي ذلك فعل المأمور على وجه السداد، وترك المنهي عنه؛ بل البعد عنه في هذا البلد الذي يربي على النفور عن كل ما هو منكر شرعا وعقلا، بل إنه يربي على رعاية الذوق والأدب العام لدى المتربي على قيمه وخصائصه؛ فالنهي عن التفل تجاه القبلة هو من قبيل التربية الذائقة حتى يصبح سلوك المرء في أعلى صورة يمكن أن يكون عليها المراعي للحرمات.
ومن هذه السلوكات:
1- فعل المأمور من الشعائر على وجه السداد:
قال الله – تعالى-: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود﴾[البقرة:125].
قال ابن عاشور: والمراد من تطهير البيت ما يدل عليه لفظ التطهير من محسوس، بأن يحفظ من القاذورات والأوساخ ليكون المتعبد فيه مقبلًا على العبادة دون تكدير؛ ومن تطهير معنوي، وهو أن يبعد عنه ما لا يليق بالقصد من بنائه من الأصنام، والأفعال المنافية للحق، كالعدوان والفسوق، والمنافية للمروءة كطواف الرجال والنساء عراة دون ثياب.
2- ترك كل ما نهى عنه في البلد الحرام:
يقول الله – تعالى-: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2).(سورة البلد)
قال القرطبي: أي أقسم بهذا البيت المعظم الذي قد عرفت حرمته، فأنت مقيم فيه معظم له، غير مرتكب فيه ما يحرم عليك.