تبرّع الأن

Groupe 1430

خليل ملا خاطر

- يا ساكني مكة؛ إني لستُ معلّمًا لكم، فأنتم أعلم بما أقول مني، لكنّي مذكّر، إني لستُ مدرسًا، لكني باحث معكم منزلة هذه البلدة المباركة؛ ومنزلةَ أهلها؛ ومسؤوليةَ ساكنيها.

لذا فإني سأتحدث إليكم حديثَ القلب للقلب، والنفس للنفس، والروح للروح،...

إن حديثي سيكون -بإذن الله تعالى- شاملاً لكل ساكن في هذه البلدة المكرمة؛ من أمير ومأمور،...من مدير وموظف، من وزير وموزور،...من مدرس وطالب، من عالم ومتعلم،...من مدني وعسكري، من قاطن ومهاجر ومقيم، من كبير وصغير، من رجل وأنثى، من تاجر وأجير، من صانع ومزارع، من رب عمل وعامل،...لأن الله تعالى يقول -على لسان إبراهيم عليه السلام-: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 126] فنسبهم إليه، وقال الله عز وجل: {الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] فسوّى بينهم،..ولأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "أهل مكة" فنسبهم إليها، ولم يخص أحدًا منهم بالذكر، فكل من رضي أن يكون من ساكنيها ممن هو فيها= فهو من أهلها.

- لا أستطيع أن أوفِّيَ أهلَ مكة حقَّهم؛ من الفضل والمنزلة والمكانة، كيف وقد اختارهم الله تعالى ليكونوا أهلَ حرمه؛ الذين هم أهلُه، وجيرانُ بيته، وأهلُ رسوله المصطفى الكريم صلى الله عليه وآله وسلم وعشيرتُه، وفيهم خيارُ هذه الأمة، بل خيارُ الخلق كلهم بعد رسولهم الكريم صلى الله عليه وآله وسلم وأنبياءِ الله تعالى عليهم السلام.

لكن حسبي أن أذكرَ هنا خلاصةً؛ أبيّن فيها فضلَ أهل هذه المدينة المكرمة، من باب التقريب والتيسير، والذي أرجو أن يكون القليلُ دالاً على الكثير، والإشارةُ تدل على العبارة، والإجمالُ يدل على التفصيل، فهذا عذري لأهل مكة.

ثم أذكر المسؤوليةَ الملقاةَ على عاتق أهل مكة المكرمة عمومًا؛ سواء تجاه مكة -البلدة- وأهلِها من ناحية، أو تجاه وفد الله تعالى، وضيوفهِ وزوَّار بيته من ناحية أخرى، وذلك من باب= الغُرْم بالغُنْم، فيكون: كيف يتعاملُ أهلُ الله مع وفد الله وضيوفه.

-  لقد رفع الله تعالى شأن أهل مكة، فجعلهم أهلَه، وسكانَ بيته العتيق، وأن من آذاهم أو أرادهم بسوء أذاقه الله تعالى العذابَ الأليم في الدنيا والآخرة،...إلخ.

لذا عظمت منزلةُ أهل مكة في نفوس المسلمين، كيف لا وهي عظيمةٌ في نفوس الناس قبل الإسلام، خاصة بعد حادثة الفيل، فهي في نفوس المسلمين أعظم، لما خُص به أهلُها من الجوار، ومن غبطة المسلمين لهم؛ بما ينالوا من فضلٍ وتكريمٍ، وزيادةٍ في الحسنات، وقيامٍ بالأعمال الصالحات، ومضاعفةِ الأجور عند الله تعالى.

بل إن بعضَ الأعمال المستحبة؛ أو النوافل -والتي ليس فيها دليلٌ عن النبي المصطفى الكريم صلى الله عليه وآله وسلم- لكن فعَلها أهلُ مكة اجتهادًا منهم؛ قد قلدهم بعضُ الفقهاء فيها.

وفي هذا دلالة على مدى مكانة أهل الحرمين في نفوس المسلمين، ومدى ثقتهم بهم، واعتمادهم على ما فعلوه أو قالوا به.

أما تكريمُ المسلمين وتقديرهم...-في أقطارهم- لأهل الحرمين- عمومًا- لو رأوهم أو حلُّوا في ديارهم: فهذا أمر مستفيض ومعروفٌ لدى القاصي والداني، فلو رأوا واحدًا منهم وأمكنهم ألا يمشي على الأرض بل على الأكف: لفعلوا، فحاجتُه مقضيةٌ، ورغبتُه محقَّقةٌ، وطلباتُه نافذةٌ،...والسعيدُ من الناس: من يسعد بخدمته وتكريمه واستضافته، وهذا ما رأيته بنفسي قبل مدة في بلاد الشام، وهو المشاهَدُ في كثير من الأقطار الإسلامية، وحدثني كثيرٌ من أهل مكة بما يُكرمون به إذا حلُّوا بديار المسلمين، وعرفهم الناس أنهم من مكة أو من المدينة.

هذه هي نظرة المسلمين إلى أهل هذه البلدة المباركة،...إلى أهل مكة المكرمة.  

- أهل مكة هم أهل الله تعالى:

كان يقال لأهل مكة: أهلُ الله، وهذا اللقب كان معروفًا لهم.

لما استعمل رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم عتَّابَ بن أَسِيدٍ رضي الله عنه على أهل مكة -يوم خروجه صلى الله عليه وآله وسلم إلى حنين، أو عند عودته صلى الله عليه وآله وسلم من الطائف= قال له: «استعملتك على أهل الله» [فقد ورد -مرسلاً- من حديث ابن أبي مُليكةَ، ومعاذ بن أبي الحارث، وسند كلٍّ منهما جيد. لكن لهما شاهدان من حديث ابن عَمْرو ومعاوية رضي الله عنهم ذكرهما الفاكهي، وشاهدٌ من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، ذكره المحاملي في أماليه، ورجاله موثقون إلا محمد بن إسماعيل، فإنهم ضَعَّفوا روايته في غير الموطأ مقيدة].

وقد ورد موقوفًا على أبي بكر الصديق قاله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما حين عيّنه للخلافة، فلما خُوّف رضي الله عنه بالله تعالى، قال: أقول استخلفتُ عليهم خيرَ أهلك.

قال الإمام الزهري: يعني خيرَ أهل مكة.

كما ورد موقوفًا على عُمر بن الخطاب رضي الله عنه قاله لعامله على مكة؛ نافع بن عبد الحارث الخزاعي رضي الله عنه.

لما قدم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه على مكة؛ تلقاه عاملُه نافعُ بن عبد الحارث الخزاعيُّ رضي الله عنه، وخلَّف على مكة: ابنَ أَبزى، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: استعملتَ على أهل الله رجلاً من الموالي! الحديث بطوله،...[رواه أبو يعلى والأزرقي، وهذا لفظهما، ورواه مسلم وغيره بلفظ ((أهل الوادي))].   

- ومن مكانة أهل الحرم المكي، ومما ينفردون به عن غيرهم من الناس؛ وكذا من المدن والبلدان: أن خفّف الله عز وجل عنهم، فلم يوجب عليهم ما أوجبه على الآفاقيين أو غيرهم؛ من وجوب الفدية على من اعتمر.

قال الله جل شأنه: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196].

فقد أسقط الله عز وجل عنهم الفدية، لأنه جل وعز أسقط عنهم وجوبَ العمرة إذا كانوا فيها، اللهم إلا من أتاها من خارجها. والله تعالى أعلم.

- ومن مكانة أهل الحرم المكي عند الله تعالى: أن تكفل سبحانه وتعالى بإطعامهم مع أن بلادهم لا يوجد فيها زرع، وآمنهم من خوف؛ مع أن القبائلَ المحيطةَ بهم يخطف بعضُهم بعضًا، ويعتدي بعضُهم على بعض.

قال الله جل شأنه: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3-4].

بل حتى لو كانوا غيرَ صالحين، بل لو كانوا غيرَ مؤمنين؛ فإن الله سبحانه وتعالى تكفّل برزقهم أيضًا؛ طالما أنهم فيها، لأنه تعالى خلقهم؛ وتكفل برزق كل ما خلق.

قال الله سبحانه وتعالى -في معرض طلب إبراهيم عليه السلام-: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 126] فأجابه تعالى بقوله: {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 126].

حيث إن إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام قَصَر في دعائه -لأهل مكة بالرزق- على المؤمنين فقط، لكن الله تعالى أجابه: أنه يرزق حتى الكفار في هذه الدنيا -وهو تمتّع قليل لا يكاد يُذكر بنعيم المؤمنين في الجنة- ثم يحشرهم إلى عذاب جهنم؛ وبئس المصير.

ولعل إبراهيم عليه السلام فعل ذلك؛ قياسًا منه على ما حصل من جواب الله عز وجل له؛ عندما عمَّم في أن تكون الإمامةُ في ذرِّيته؛ فقصَرها الله تعالى على المؤمنين فقط، لأن الكفار لا ينالهم هذا العهد كما قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124].

لذا قَصَر في دعائه بالرزق على المؤمنين، ولكن الله تعالى طالما أنه خلقهم فقد تكفل برزقهم، فإذا كان الله جل شأنه قد تكفل برزق الكفار؛ وهم كفار، فكيف بالصالحين المتقين؟ ولكن الله سبحانه وتعالى يبتلي عباده.

وقد تكفل الله تعالى لأهل مكة ألا يُضَيَّعوا. وهذا ما قاله جبريل لأم إسماعيل عليهم السلام عند نبع ماء زمزم.

فعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما -في قصة مَجيء إبراهيم بهاجر وإسماعيل عليهم السلام وبناء البيت، وفيه- "فقال لها الملَك: لا تخافوا الضيعة، فإن ها هنا بيت الله، يبني هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله" زاد في الرواية الثانية: "فجعلت تشرب من الماء، ويَدرُّ لبنها على صبيها..." الحديث. [رواهما البخاري].

- يا ساكن مكة مَن تجاور؟ وفي أي بلد تسكن؟

لقد نقلك الله تعالى -يا ساكن مكة المكرمة، أو نقل أباك وأنت في صُلبه، أو نقل جدَّك -وإن علا- وأنت في صلبه -من بلدك إن كنتَ من أهل المدن، إلى أفضل البلدان، ومن قريتك -إن كنتَ من أهل القرى- إلى أم القرى، ومن باديتك -إن كنتَ من أهل البادية- إلى حرم الله عز وجل،...ونقلك من أناس عاديين، أو من جِوار فسقةٍ فجرةٍ، أو عصاةٍ كفرة،...إلى جوار بيته الكريم، ومن بيتك الجديد المتداعي إلى بيته العتيق، ومن حِلِّك إلى حرمه،...واختصَّك من بين ملايين المسلمين، فضلاً عن ملايين البشر لتنعم بهذا الجوار، وتسكن في هذه الدار، وتقطن في هذا الحرم، فتتضاعف حسناتُك، وتزول أسقامُك، وتنعم في البركات التي حُرِمها غيرُك، وتسعد بالمآثر العظام، وتعيش في الأمن والأمان، والنعماء الجليلة، وتشهد الكعبة والمقام،...وتُقَبِّل الحَجَرَ،..وتنام في الحرم الجليل، وتقوم في المرابع الكرام،...وتكتحل عينُك بالمشاهد العظام، وتشرب من ماء زمزم خيرِ ماءٍ على وجه الأرض، وتنال الدعوات الصالحات،...إلخ.

إنك في بلد؛ لا يدانيه في الفضل والمنزلة والمكانة؛...إلا المدينة المنورة، ثم إنك تنعم بهذا الجوار؛ الذي لا يدانيه أو يقاربه بلد إلا ما كان في المدينة، فصرتَ من أهل الله، وقُطّانِ بيته، وسُكّانِ حرمه.

فهل بعد هذه النعمة -بل النعم الكثيرة- من نعمة؟ وهل بعد هذه المزية -بل المزايا الكثيرة- من مزية؟ وهل بعد هذه المنزلة -بل المنازل العظيمة الجليلة- من منزلة؟ وهل..؟ وهل..؟

فكيف تُقدِّرُ هذه النعماء؟ وتشكر المولى المتعال على هذه المكرمة العظماء؟  وتعترف بتقصيرك عن إدراكك ما يجب عليك من القيام بشكره تعالى وشكر نعماه؟ وتحمد المولى تعالى على هذه المنزلة الرفيعة العالية الكريمة،...وهذه الخاصِّية الجليلة؟ وهذه المزية السامقة العالية الرفيعة؟ سؤالٌ أضعه بين يدي كل ساكن وقاطن؛ في هذه البلدة المباركة الشريفة.

-يا سكان مكة المكرمة الذين خصّكم الله تعالى بسكنى بيته الحرام، تلك المنقبة الجليلة، والمنزلة الرفيعة،...والمكانة العالية، والمرتبة الشريفة،...حيث قدّر الله عز وجل لكم؛ ورضي أن تكونوا أهلَه؛ وسكانَ حرمه الشريف؛ وجيرانَ بيته العتيق؛ وقُطّان أول بيت وضعه تعالى للناس،...فما هي مسؤوليتكم:

- تجاه هذا البلد الذي أسكَنَكُموه؛...والبيت الذي أحلَّكُموه؛ والحرم الذي أَقطَنكموه،...والناس الذين هم جيرانكم؛ وأهل بيتكم؛ وسكان حرمكم؛...الذين خصَّهم الله تعالى خصَّكم؟؟؟

- وتجاه وفد الله عز وجل الذين أجابوه، ومدعوي إبراهيم عليه السلام الذين استجابوا لدعوته، وممتثلي أمر رسوله المصطفى الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، فوافقوا القدَر الإلهي، فحضروا إليكم لحجٍّ أو عمرةٍ أو زيارةٍ أو غيرها،... فكيف تستقبلونهم؛ وتعاملونهم؛ وتحترمونهم؟؟؟

هذا ما سأتحدّث عنه إن شاء الله تعالى.

لكن قبل الشروع في بيان هذه الواجبات أحبُّ أن أبيّن حالَ أهل مكة القرشيين قبل الإسلام؛ لتكون المقارنةُ بعد ذلك واضحة:

حال أهل مكة قبل الإسلام:

لقد اتفقت كلمة علماء السِّيَر والمغازي: أن قُصَيَّ بنَ كِلاب -وهو الجَدُّ الرابع للنبي المصطفى الكريم صلى الله عليه وآله وسلم- لما تمكن من استرداد مكةَ من الخزاعيين -وأعانه أخوه من أمه؛ رزاح بن ربيعة من بني قضاعة- وإقصائِهِ صوفةَ أيضًا، وصارت بيده الحِجابةُ والسقايةُ والرِّفادَةُ والندوةُ واللواء...= هو أول من حثّ على إكرام الحجيج وإطعامهم.

ولما توفّي اختلف أولادُه من بعده، ثم اصطلحوا على أن يلي عبدُ مَناف -وهو الجدّ الثالث للنبي المصطفى الكريم صلى الله عليه وآله وسلم- السقايةَ والرِّفادَةَ، ويلي عبدُ الدار الحجابةَ واللواءَ والندوةَ.

ولما تُوفّي عبدُ مَناف ولي السقايةَ والرِّفادَةَ ولدُه هاشمٌ -وهو الجدّ الثاني للنبي المصطفى الكريم صلى الله عليه وآله وسلم- وبقيت الحجابةُ واللواءُ والندوةُ بيد أولاد عبد الدار.

ولما تُوفّي هاشمٌ خلفه أخوه المطّلب، وبعد وفاته خلفه ابنُ أخيه عبدُ المطّلب بن هاشم -وهو جدُّ النبي المصطفى الكريم صلى الله عليه وآله وسلم مباشرةً- أما الحجابةُ واللواءُ والندوةُ فبقيت بيد أولاد عبد الدار.

والسقاية: هي سقاية الحاج، فقد كانوا يأتون بالماء من أماكن بعيدة على الدواب، لأن مكةَ لا يوجد فيها ماء، بعد أن دَفَن عَمْرُو بنُ الحارث بن مضاض الجرهمي زمزمَ، عندما أخرجتهم خُزاعةُ من مكة، فيأتون بالماء؛ ويضعونه في أحواض من جلد ونحوها، ويُحَلُّونه بتمر أو زبيب؛ ليشربه الحُجّاجُ، ويشترون التمرَ من المدينة، والزبيبَ من الطائف، أو من غيرهما.

ولما شحّ الماء؛ وبَعُد مصدرُه؛ واهتم عبد المطلب في تأمينه= أكرم الله تعالى أهلَ مكة -ومِن بعدهم المسلمين- بأن أراه عز وجل في المنام قصةَ حفر زمزم، والتي لاقى فيها الشدائدَ والأهوال، فكان من نتيجتها= نذره بذبح ولده عبد الله؛ والد النبي المصطفى الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، وآل أمرُها له، ولكنه لم ينفرد بها، بل جعلها لكل شارب، لكن بقيت السقايةُ بيد ولده أبي طالب، ثم بعد وفاته آلت إلى العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه بعد ذلك.

وأما الرفادة: فهي إطعام الحجيج، حيث كانوا ينحرون الإبل؛ ويصنعون الطعامَ للحُجّاج؛ كما كان عبدالمطلب؛ ومِن قبله آباؤه يحثُّون أهلَ مكة على إطعام الحجيج.

ويُذكر عن هاشم في إطعام الحجيج وغيرهم الشيءُ الكثيرُ، حتى كان يُطعم الوحشَ والطيرَ، وهو أول من أمر برحلتي الشتاء والصيف.

وكم كان يكلّفهم ذلك الطعامُ والشرابُ من جهد ومال؟؟؟

كلُّ ذلك خدمةً لحجاج بيت الله تعالى، ومن غير مقابلٍ من أحد.

ومن الأمور التي وُجدت قبل الإسلام؛ ومَدَحها النبيُّ الكريمُ صلى الله عليه وآله وسلم؛ وتُعتبر غرة في الجبين= حلفُ الفضول، وهو لنصرة المظلوم.

وسبب ذلك الحلف؛ أن رجلا من زبيد -من اليمن- قدم مكة بمتاع، فابتاعه منه العاص بن وائل السهميُّ، فظلمه الثمن، ولم يدفعه له، فشكاه الزبيدي إلى الأحلاف (وهم بنو عبد الدار ومخزوم وجمح وسهم وعدي بن كعب) فلم ينصفه أحد، فقام الزبيرُ بن عبد المطلب  -عمُّ النبي المصطفى الكريم صلى الله عليه وآله وسلم-، وجَمَع بني هاشم وبني زهرة وبني أسد وبني تَيم،...في بيت عبد الله بن جُدعان، وصنع لهم عبدُ الله طعامًا، وتعاهدوا على نصرة المظلوم،...ومشوا إلى العاص بن وائل، وانتزعوا منه حقَّ الرجل. في قصة طويلة.

ولما قدم رجل من خثعم؛ ومعه ابنة له جميلة؛ أخذها نبيهُ بنُ الحجاج، فحاول الخثعميُّ استردادها؛ فلم يقدر، فأشار عليه أحد الناس أن ينادي حول الكعبة بحلف الفضول، فنادى: يا آل حلف الفضول، فإذا هم يعنقون إليه بأسيافهم، ويقولون: جاءك الغوث، فما لك؟ فذهبوا معه، وردوا له ابنته.[انظر: الروض الأنف (1 :  157) والسيرة النبوية لابن كثير (1 : 260)].

وبقي هذا الحلف إلى زمن متأخر، وذلك عندما حصل بين السيد الحسين رضي الله عنه مع الوليد بن عتبة بن أبي سفيان -والي المدينة- منازعةٌ في مالٍ كان بينهما بذي المروة، فأبطأ الوليد على الحسين، مستظهرًا بولايته، فقال الحسين رضي الله عنه وقد أخذ سيفه: والله إن لم تعطني حقي؛ لأقومنّ في المسجد؛ وأنادي بحلف الفضول، فقام عبد الله بن الزبير، والمسور بن مخرمة الزهري، وعبدالرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي، في عدد من الصحابة رضي الله عنهم؛ بجوار الحسين رضي الله تعالى عنه، وسلُّوا سيوفَهم، وقالوا: والله لو نادى لنقومنّ معه، فاضطر الوليد إلى إعطائه حقه.[انظر القصة بتفاصيلها: السيرة النبوية لابن هشام (1 : 155) والسيرة النبوية لابن كثير (1 : 261-262)].

ومما عُرف عن أهل مكة أيضًا: النخوةُ والعفة والشهامة، حتى مع العدو.

لما أراد أبو سلمة رضي الله عنه الهجرةَ بأهله إلى المدينة؛ وأخذ بنو المغيرة أمَّ سلمة رضي الله عنها؛ ثم أخذ بنو عبد الأسد ولدَها عُمر، وصارت تخرج كل يوم إلى الأبطح تبكي، حتى وافقوا على هجرتها، فخرجت بعد عام، ومعها ولدُها مهاجرةً إلى المدينة ليس معها أحد، فلقيها عثمان بن طلحة العبدري -وهو مشرك، منابذ للإسلام يومئذ، ثم أسلم بعد الحُدَيْبِيَةِ، وهاجر مع خالد بن الوليد رضي الله عنهما إلى المدينة- فلما علم أنها مهاجرة، وأنه ليس معها أحد، لم تطب نفسُه وشهامتُه وغيرتُه أن تُسافر بمفردها، مع أنه ليس من رهطها ولا من رهط زوجها، فصحبها من مكة حتى أدخلها قباء، وأوصلها إلى البيت الذي ينزل فيه زوجها رضي الله عنه. وتحدثت عن كرم أخلاقه وعفته الشيء الكثير.[انظر القصة بتفاصيلها: السيرة النبوية لابن هشام بشرح الروض (2 : 211-212) وأسد الغابة (6 : 341-342) والسيرة النبوية لابن كثير (2 : 215-217) والإصابة (8 : 222-223)].

ومما عُرف عن أهل مكة أيضًا: الوفاء والأمانة، وكتم السر، وعدم الخيانة، ولو كان مع العدو.

- ولا أدل على ذلك من عدم اقتحام شباب قريش على النبي المصطفى الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بيتَه ليلة الهجرة؛ عندما كانوا محاصرين له صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كان هذا بتقدير الله العزيز الحكيم، وحفظه جل شأنه لرسوله المصطفى الكريم صلى الله عليه وآله وسلم.

- وكذا من استئجار أبي بكر الصديق رضي الله عنه عبدَ الله بنَ أريقط؛ ليدلهم على الطريق؛ وهو مشرك، مع أن قريشًا قد وضعت جائزةً -وهي مائة ناقة- لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ أوأبي بكر رضي الله عنه، أو يدل عليهما، ومع هذا لم يحصل شيء من ذلك.

وهناك صفات كثيرة يتصف بها أهل مكة؛ سواء في الجاهلية؛ أو في صدر الإسلام، يصعب التحدث عنها لكثرتها، من المواساة فيما بينهم وخاصة الفقير، أو إعطائهم الثياب لمن لم يأت بها من الحجاج، أو لِمن لم تكن عنده للطواف، أو إيثارهم على أنفسهم؛ حتى في آخر لحظة من الحياة؛ كما في الجرحى يوم اليرموك، فماتوا جميعًا رضي الله عنهم وأرضاهم. [انظر القصة في: الاستيعاب (4 : 191) والعقد الثمين (6: 122) والبداية والنهاية (7 : 12)].

يضاف إلى ذلك: أنه لم يذكر وجودُ منافق في أهل مكة في بدء الإسلام. والله تعالى أعلم.

لذا أقول: ألا يكون الحاضرون المسلمون خيرًا من أهل الجاهلية؟

ويتصفون بصفات الصحابة الكرام رضي الله عنهم؛ فيما اتصفوا به من صفات الجمال والكمال؛ في تعاملهم؛ ومعاملاتهم؛ وأخلاقهم؛ وحسن أدبهم؛ وكرم أخلاقهم؛ وإيثارهم؛ وجميل فعالهم؛ و...و...مع أنفسهم؛ ومع أهليهم ومجاوريها؛ ومع القادمين عليهم؟؟؟ أرجو الله تعالى أن يحقق الآمال. إنه نعم المولى ونعم النصير.

Total6281057
زوار الموقع
المملكة العربية السعودية – مكة المكرمة ـ مخطط الحمراء الإضافي ـ النزهة الغربية الطريق الدائري ـ بجوار جامع السلام وملعب الكابتن ماجد
ص ب : 57571 الرمز البريدي : 21955

 

واتس آب : 00966506602821
5460608 - مفتاح المنطقة 012
5390101 مفتاح المنطقة 012
© 2024 بوابة تعظيم البلد الحرام