خليل ملا خاطر
- الغُرْم بالغُنْم:
كلما عظمت منزلةُ الإنسان= زادت مسؤوليته،...وكلما ارتفعت مكانتُه= كثرت واجباتُه،...وكلما علا شأنُه= دُقِّق عليه في أخطائه،...وكلما عظم قدرُه= ضُخّمت سيئاته، وكلما ارتفع كعبُه= شُدِّد عليه في حسابه،...
فمثلاً: لما كان أمهاتُ المؤمنين رضي الله تعالى عنهن وأرضاهن؛ أقربَ الناس من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وألصقَ الخلق به صلى الله عليه وآله وسلم،...ونلن من الشرف والمكانة والمنزلة والرفعة؛...ما لم تنله امرأة قط، حيث إنهن يعشن معه صلى الله عليه وآله وسلم في بيته، ويعاشرنه، ويرينه،...فهن رضي الله عنهن لسن كغيرهن، فإذا كان الله عز وجل قد أعطاهن الثوابَ المضاعف على فعل الخير؛ فإنه جل شأنه يضاعفُ لهن العذاب؛ لو حصل منهن ما يقتضي العقوبة، لأنهن رضي الله عنهن لسن كأحد من النساء.
وقد قال سبحانه وتعالى موضِّحًا ذلك: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 30-32].
فالمفروض فيهن رضي الله عنهن= أن يكن قانتات،...عابدات، صالحات،...في طول حياتهن، ولا يأتين بأي معصية مهما كانت، لأنهن لسن كأحد من النساء؛ لشدة قربهن؛ وعلو منزلتهن؛ ورفعة مكانتهن،...رضي الله عنهن وأرضاهن.
وهذا هو المشاهَد في مُجالسي الزعماء من الناس، فإنهم يؤاخَذون على الخطأ البسيط، بخلاف غيرهم، وقد وُضع موظّف خاص لإرشاد الجديد كيف تكون مجالسة هؤلاء؛ ومحادثتهم ومخاطبتهم،...ويؤاخذ هؤلاء الملازمون أكثرَ من غيرهم، مع أنهم يجالسون بشرًا مثلهم.
بل إن هؤلاء العظماء الذين ارتفعت مكانتهم؛ ومنزلتهم،...إذا أخطؤوا؛ فإن خطأهم قد يشمل معرّتُه غيرَهم ممن بعدهم، خاصةً إذا كانوا بحضرة من هم محسوبون عليه؛ ومن نالوا المنزلةَ والمكانةَ بسببه، وفي المكان المعظَّم.
وهذا ما حصل مع الصحابة الكرام رضي الله عنهم، حيث أخفى الله تعالى معرفةَ ليلة القدر بسبب ملاحاة صحابيين كريمين رضي الله تعالى عنهما في المسجد النبوي الشريف، فكان عِظَم الخطأ؛ للمكان والزمان؛ وعند من نالوا المنزلة بسببه صلى الله عليه وآله وسلم.
فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلانٌ وفلان، فرُفعت، وعسى أن يكون خيرا لكم،...» الحديث بطوله [رواه البخاري]، وروى مسلم نحوهَ، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه.
فأيّ خسارة أفدح من رفع معرفة ليلة القدر؛ بسبب الملاحاة بين هذين الصحابيين الجليلين رضي الله عنهما؛ ورفعِ أصواتهما؟ وأرجو أن يكون في ذلك خير.
ولهذا أَمرَ الله عز وجل الحاجَّ إذا أحرم ودخل مكة= ألا يرفث؛ ولا يفسق؛ ولا يجادل،...تكريمًا وتعظيمًا لما هو فيه، لتلاقي المكان والزمان؛ والأشخاص. والله تعالى أعلم.
قال الله عز وجل: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].
لذا كانت المسؤولية كبيرةً على ساكني مكة، والله تعالى أعلم.
أنواع المسؤولية:
والمسؤولية نوعان: مسؤولية شرعية، ومسؤولية رسمية أو دنيوية.
أما المسؤولية الدنيوية: فلست بصدد الحديث عنها، فهي تقابل ما يأخذه الإنسان من أجر (راتب) لأن من أخذ الأجرَ حاسبه الله عز وجل على العمل؛ على وفق ذلك الأجر، وهو مسؤول أمام من عيّنه في ذلك العمل، ويَجب أن يؤدي عملَه بطيب قلب، وصفاء نفس، وإخلاص نية،...مقابل الأجر الذي أخذه.
وهذه المسؤولية: قد يُؤجر عليها المرءُ؛ إذا أخلص لله جل وعز، وقصد بعمله مرضاةَ الله عز وجل، وليس في عمله معصيةٌ أو مخالفةٌ، وقصد إعفافَ نفسه، وكفَّها عن المسألة، أو إعانة والديه أو أحدهما، أو إعانة أطفاله وزوجه،...إلخ.
خاصة؛ إذا علمنا أن حياء الإنسان يجب أن تكون كلها عبادة، لأن الله جل وعز خلق الإنسان كذلك، كما قال جل شأنه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
ومفهوم العبادة: شاملٌ لكل جزئيات الحياة، وليس هي الصلاة والصيام والزكاة والحج والذكر وقراءة القرآن الكريم...كما يتصوره كثير من الناس.
وأما المسؤولية الشرعية: فهي المقصودة في حديثنا هنا، ولهذه المسؤولية مظاهر متعددة، وأشكال مختلفة، وهي كثيرةٌ جدًا، لكني سأذكر بعضَها.
وهي قسمان: مسؤوليةٌ تجاه مكة المكرمة وسُكّانِها،...ومسؤوليةٌ تجاه القادمين إليها؛ من حجّاج وعمّار وزوّار...وأسأله تعالى الحفظ والإعانة والتيسير.
أما المسؤولية تجاه مكة وسكانها؛ فلها مظاهر كثيرةٌ، أذكر بعضًا منها، للتدليل على الباقي، والله تعالى هو المعين والميسر والحافظ.
- حمد الله تعالى وشكره على ما أنعم وأكرم على ساكن مكة، حيث إن الله تعالى خصّه من بين ملايين المسلمين بهذا الجوار، والتنعم بهذه الميزات، والإكرام بهذه الفضائل والمبرات.
وهذا الشكر= يستدعي القيامَ بطاعة الله جلّ وعزّ، والقيام بحق العبودية له جلّ شأنه، والقيام بالأوامر، وأداء الطاعات والعبادات،...والابتعاد عن كل ما يسخط الله تعالى، وتقديم المحامد، والإكثار من ذكر الله سبحانه وتعالى وشكره وحمده،...لأن في ذلك تحقيقًا لقول الله إبراهيم عليه السلام: {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].
والشكرُ عمل، والحمدُ قول، والجمع بينهما مطلوبٌ شرعًا، وقد أُمرِنا بهما جميعًا، فلا أدل أن يُشكر الله سبحانه وتعالى على هذه النعمة حتى تدوم.
- القيام بمحبة النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم وطاعته واتباعه، والتخلق بأخلاقه، والتحلي بصفاته، والاقتداء بأحواله، والاهتداء بهديه صلى الله عليه وآله وسلم، وكثرة الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وآله وسلم.
وذلك لأن بإيمان ساكن مكة به صلوات الله عليه وآله وسلم وطاعتِه واتباعِه ومحبته= صار مسلمًا، وحل له سكنى هذه البلدة المباركة، فَنَعِم بهذه المكرمات، وحظي بهذه الميزات، وسعد بهذه الخصائص والفضائل، لذا يلزم من ساكن مكة أن يُكثر من طاعته واتباعه لرسوله المصطفى الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ومحبته والصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وآله وسلم.
لذا عليه بقراءة سيرته وشمائله وأخلاقه ومعرفة أحواله صلى الله عليه وآله وسلم، حتى يتحقق الساكنُ في هذه البلدة المباركة بتلك الصفات والأخلاق،...فيكون صورةً مصغّرةً عنه صلى الله عليه وآله وسلم في الاتباع والطاعة والتحقق في الأخلاق والأحوال، خاصة في هذا الزمان؛ الذي جهل فيه كثيرٌ من الناس كثيرًا من سيرته وأحواله صلى الله عليه وآله وسلم، مع الأسف الشديد، والله تعالى أعلم.
وإذا كان هذا مطلوبًا من كل مسلم؛ فهو من ساكن الحرمين أشدّ وآكد، خاصةً والدواعي على تذكّره صلى الله عليه وآله وسلم قائمة في كل مكان فيهما.
- الشعور دائمًا بالعجز عن القيام بواجب الشكر لله تعالى، والقيام بالواجب المطلوب، لأن المنّةَ هي دائمًا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولأن أداء الواجب على الوجه المطلوب متعذّر، والمنّة قائمة على العبد دائمًا.
فعن معاوية رضي الله عنه -في قصة خروجه صلى الله عليه وآله وسلم على حلقة من أصحابه رضي الله عنهم- قال صلى الله عليه وسلم: "ما أجلسكم؟". قالوا: جلسنا نذكر الله، ونحمده على ما هدانا لدينه ومنّ علينا بك. الحديث.[رواه أحمد والنسائي والطبراني، وهذا لفظهم، ورواه مسلم بنحوه].
فإذا كانت المنّةُ لله سبحانه وتعالى ولرسوله المصطفى الكريم صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإن المرء عاجز عن أن يؤدي جزءًا من الحق الواجب عليه، فهو في التقصير دائمًا، وإن كان الله سبحانه وتعالى قد رضي منا القليل، والله تعالى أعلم.
- أن يكون حريصًا على محبة مكة، موافقةً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في محبته لها، فمن كان متّبِعًا له صلى الله عليه وآله وسلم لزمه محبَّتُها وتقديمها، لأن من شأن المُحبِّ الصادق أن يحبّ ما يُحبُّه محبوبه، هذا في المباحات، فكيف إذا كان الأمرُ مطلوبًا؟!
وقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مدى محبته لمكة المكرمة يوم خروجه منها:
فعن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة: «ما أطيبك من بلد وأحبك إلي ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك» [رواه الترمذي وابن حبان والحاكم وصححوه وأقره الذهبي، والطبراني وأبو يعلى برجال ثقات.
ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه، والدارمي، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم وابن خزيمة؛ في آخرين، من حديث عبد الله بن عدي بن حمراء رضي الله عنه بنحوه].
- أن يشعر أن وجوده في هذه البلدة المباركة هو امتحان من الله تعالى، وابتلاء منه عز وجل، ليشكر هذه النعمةَ فيُكرم ويَسعد، ويزيده الله جل شأنه، أم يكفر هذه النعمة -التي خصّه الله تعالى بها بدون اختياره- ويجحدها؛ فيخسر في الدنيا وفي الآخرة.
لأن الإنسان في الابتلاء مستمر، في الخير والشر، وعلى العاقل من البشر أن يكون شاكرًا لنعم ربه عز وجل،
كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35].
والذي يشكر ربه جل شأنه= فإنما يشكر لنفسه، ومن يكفر= فالله سبحانه وتعالى غني عنه.
كما قال الله تعالى عن سليمان عليه السلام: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40]
ولكل من الشكر والكفر -لنعمة وجوده في هذه البلدة المباركة- مظاهرُ متعددة.
لذا عليه أن يكون قائمًا بِحقّ هذه البلدة المباركة، وحقِّ أهلها، معترفًا بفضل الله تعالى عليه، ولا يكون كافرًا لهذه النعمة، جاحدًا لفضله تعالى عليه، مقصِّرًا بحقها وحق أهلها، أو مفرّطًا في ذلك.
- الدعاء لمن كان السببَ في وجوده في هذه البلدة المباركة من الآباء والأجداد والأمهات وغيرهم،..لينال هذه المنزلة الرفيعة،..ويحظى بهذه المكانة السامية، والثواب الكبير المضاعف، ويسعد بهذه المكرمات، والمزايا التي لا توجد في غيرها،..وهذا من أولى الواجبات على الساكن فيها، كيف وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء لمن أسدى إلينا معروفًا؟!
فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((...ومن صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أن قد كافأتموه)) [رواه أحمد والطيالسي وعبد بن حُمَيد والبخاري -في الأدب المفرد- وأبو داود والنسائي والبيهقي، وصححه ابن حبان والحاكم والنووي].
- الحرص على تمثّل حال الصحابة رضي الله عنهم (المهاجرين) في الإيمان والصبر والتحمّل، والإخلاص والطاعة، والأخلاق والعبادة، والدفاع،...حتى يعطي المرءُ صورةً صادقة عمن حلَّ في ديارهم وبيوتهم، ويزداد محبةً لهم، فيبقى الصلاح والإصلاح موجودًا في هذه البلدة المباركة.
إضافة إلى حرصه الشديد على حبهم رضي الله تعالى عنهم ليكون معهم في الآخرة، ويعمل على التحقق بصفاتهم وأخلاقهم، كما يسعى جاهدًا ألا يخالفهم في أخلاقهم وصفاتهم،...لأن المرء مع من أحب، ويحشر معه.
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنت مع من أحببت)). كما في حديث أنس رضي الله تعالى عنه، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((المرء مع من أحب)). كما في حديثي عبدالله بن مسعود وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما؛ المتفق عليها.
- الحرص على تعظيم حرمة الحرم، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، سواء في المعتقد أو الفعل أو القول، لأن تعظيمه نابع من القلب، وهو تعظيمٌ لمحرِّم هذا البلد.
ولهذا التعظيم مظاهر متعدِّدةٌ متنوِّعة،...ومن تلك المظاهر: عدم الصيد؛ والتعرِّضِ له، وعدمُ قطع الشجرِ، والكلأ، والتقاط اللقطة، وعدمُ الاعتداء على الناس وأموالهم وأعراضهم، وعدم المشاجرة فيه،...وذلك كله تطبيقًا لما بيَّنَه الله تعالى في كتابه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]، وقد تكرر ذكر لفظ (المسجد الحرام) في القرآن الكريم (15) مرة، و(البيت الحرام) (2) مرتين.
فإذا حصل التهاون في حُرمة الحرم؛ فإنه يؤدّي إلى الضعف في الطاعة، وإلى عدم الامتثال. والعياذ بالله تعالى.
ولا يكون حال الساكن أدنى من حال العرب في الجاهلية؛ حيث يمشي القاتلُ فيه مع وليِّ المقتول.
- الحرص على بقاءِ لاعج الشوق متقّدًا وحرقة القلب وجذوتِه مشتعلةً، وأن يبقى قلبُه دائمَ الهُوي لمكة، وليحقق مطلب إبراهيم عليه السلام: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37]، ويدأب دائمًا ألا تَخفَّ حُرمةُ الحرم في قلبه، ولا تكون سكناه فيها لمجرد الدنيا، أو المصلحة، وليحاسب نفسه، وليتفقدها دائمًا،...فإن شعر بضعف الشوق؛ وخفّة الحرمة= شَحَنَه في نفسه، وعمل على إيقاده، لأن به تقع حُرمةُ الحرم، واستمرارُ القيام بأداء الأعمال، والدأب على العبادة، خاصةً؛ وهذه البلدةُ المباركةُ مكانُ عبادة؛ وتفرّغٍ لله تعالى؛ وإقبالٍ عليه؛ قبل أن تكون موضعَ تجارة ودنيا، كما قال الله جل وعز على لسان إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [إبراهيم: 37].
ولهذا كان الصحابةُ الكرامُ رضي الله عنهم وأرضاهم، والسلف الصالح رحمهم الله تعالى يحاسبون أنفسهم، ويتفقدون إيمانهم، ولهذا قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا...) [الزهد لابن المبارك (103)، والزهد لأحمد بن حنبل (120)، ومحاسبة النفس لابن أبي الدنيا (رقم 2)، وحلية الأولياء (1: 52)، وكنز العمال (16: 195)]، والله تعالى أعلم.
- الحرص على أن يكون على قدرِ المسؤولية التي نيطت به، وأكرمه الله تعالى بها، وخصَّه دون كثير من خلقه، فصار من أهل الله تعالى، واختير ليكون من سكان هذه البلدة المباركة ومجاوري بيته العتيق، فينعم بالمنافع العظيمة،...وكل ذلك يقتضي منه الشعورَ بهذه النعمة، والقيامَ بواجبها تجاه المولى عز وجل الذي خصّه بها، ويشكره عليها.
خاصة؛ إذا تذكرنا كم من المسلمين في العالم من يتمنى أن يحظى بساعة، وتكتحل عيناه بما يراه ويعيشه ساكنُ هذه البلدة المباركة، ويسعد برؤية الكعبة المشرفة؛ والمشاعر العظام،...إلخ.
- إن المهمةَ الأساسيةَ من إسكان إبراهيم لولده إسماعيل عليهما السلام في مكة؛ هي العبادة والطاعة، كما قال الله تعالى على لسانه عليه السلام: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [إبراهيم: 37].
لذا على أحفاده ومن سكن ديارَه أن يكون دائمَ الطاعة، حريصًا على الآخرة، متجنبًا كل معصية أو مخالفة، بعيدًا عن كلِّ ما يسخط المولى جل شأنه، سواء كان ذلك في المعتقد أو العبادة، أو غيرها، ليحقق مطلب إبراهيم عليه السلام،
كما قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].
وقال تعالى على لسانه عليه السلام أيضًا: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128].
وليحقق أمنيةَ إبراهيم عليه السلام، فيكون في معيته يوم القيامة، كما قال الله سبحانه وتعالى لسانه عليه السلام: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36].
وهذه هي صفة ساكني هذه البلدة، كما قال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} [قريش: 3].
- الحرص على الإكثار من الطاعات، والعبادات، والتعرض للرحمات، وذلك لأن الأعمالَ الصالحةَ مضاعفةٌ في مكة، فمن صلى أربعةَ أيام فيها كان كمن صلَّى (1127) سنة، فيما سواها من المدن، وهكذا سائر العبادات، لذا فليتعرض الساكن لذلك، ولا يضيِّع ذلك، ولا يفرط فيه، ولا يجعله يفوت عليه.
كما عليه أن يكون جاهدًا على عدم ارتكاب الخطايا والذنوب -صغيرها وكبيرها- لأن ذلك يورث مقتَ الله تعالى؛ لشرف الموضع والمكان، إذ ربّ معصيةٍ تورث طرد العاصي من الحرم، بل قد تكون سببًا في غضب الله تعالى، لأن الله تعالى يغار على حرماته، ولا أدلَّ على ذلك من كتابة الإرادة ممن يريدها بظلم، مع أنها معفوٌّ عنها في غيرها من المدن.
وإذا كان الله تعالى قد حرَّم (الرفث والفسوق والجدال في الحج) حُرمةً للعبادة والإحرام؛ فلا أدلّ على تَحريم ارتكاب الخطايا والآثام حرمةً للحَرَم، لأنه يحرم فيه كلُّ باطل. والله تعالى أعلم.
- أن يكون حريصًا على أن يبقى صافي الإيمان، سليم المعتقد، تامَّ الطاعة والاتباع، خاليًا من الشوائب، بعيدًا عن المكدّرات، وعن كل ما يخدش إيمانه أو معتقده، أو عبادته، فلا تقع منه بدعة، أو مخالفة في العقيدة أو السلوك أو العبادة، أو المعاملة أو الأخلاق،...لأن هذه هي دعوة إبراهيم عليه السلام له ولذريته، وهو ما تخوَّف من وقوعه فيهم.
فقد قال الله تعالى على لسانه عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 35-36].
كيف ما يمنع ذلك كله وقد حرّم الله تعالى كلَّ ما يخدش الحج.
فقال الله عز وجل: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].
حرمةً للمكان والزمان والأشخاص والعبادة، وحتى يبقى الشيطان في يأسه من عبادة الناس له في هذه البلدة الطيبة المباركة. والله تعالى أعلم.
- الحرص على عدم الوقوع في المخالفات في المعاملات، سواء كانت ماليةً، أو غيرَها، لأن فعلَ تلك المخالفات خطيرٌ جدًا.
- الحرص على ألا يكون سببًا في تجرئة الناس على إهانة حُرمة الحرَم، أو تخفيفِ هيبتهِ في نفوسهم، وذلك بعدم استحلاله، لأن الحرمَ لن تُنتهك حُرمتُه إلا من قِبل أهله، فإذا انتهكوه هان في أعين الناس.
وذلك لأن الساكن إذا ارتكب فاحشةً؛ أو محظورًا؛ وهانت عليه نفسه؛ ورآه غيره؛ فإن ذلك يجرئه على ما هو أكبر، لذا إذا هانت حُرمةُ الحرم على أهله هان على الناس، وتطاولت أعناقهم، لذا حذَّر النبيُّ المصطفى الكريم صلوات الله عليه وآله وسلَّم من انتهاك حرمة الحرم، وأن ذلك لا يكون إلا من قِبل أهله.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: "ولن يستحل البيت إلا أهله، فإذا استحلوه فلا يُسأل عن هلكة العرب، ثم تأتي الحبشة فيُخرِّبونه خرابًا لا يُعمر بعده أبدا،..." الحديث، [رواه أحمد والطيالسي وابن أبي شيبة وابن أبي الجعد، وصححه ابن حبان والحاكم، في آخرين].
لذا فإني أُعيذ ساكنَ مكة أن يكونَ أولَ من يستحل الحرم.
- الحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على يد السفيه، والحرص على أن يكون المجتمع مثاليّاً؛ في دينه؛ وخُلقه؛ ومعاملته؛ وأخلاقه،...لأن هذه هي صفةُ الجد الأكبر إسماعيل عليه السلام، حيث وصفه الله جلت قدرته بقوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 54-55].
فقد وصفه عز وجل بصدق الوعد، وأنه يأمر بالصلاة وبالزكاة، إضافة إلى أنه نبي؛ ورسول؛ وأنه مرضي عند الله تعالى.
- الحرص على أن يكون مثالاً للمسلم الحقيقي؛ في دينه؛ وخلقه؛ وعبادته؛ وصلاحه؛ وأدبه؛ ومعاملته؛ وأحواله؛ وتصرفاته، وأن يكون قدوةً لغيره؛ بأن يكون المؤمنَ التقيَّ؛ والمسلمَ النقيَّ؛ الصالحَ القانتَ؛ الملتزمَ بالعبادة؛ والمعاملة الصادقة الصالحة؛ ظاهرًا وباطنًا، وأن يكون حاضرَ الإيمان، لأن مستحضره لا يقع في معصية أو مخالفة، إلا إذا غفل عن إيمانه، كما قال الله جل شأنه: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا} [الأعراف: 201].
وأن يكون عفيفَ النفس، غيورًا على المحرمات، أمينًا تقيًا نقيًا، صالحًا قانتًا، طاهر الذيل، راعيًا للذمام، حافظًا للجوار، كريمًا شهمًا، حصينًا، غاضًا بصره وطرفه، سليم الصدر من الخيانة والغدر، رحيمًا بمن نزل به، عطوفًا عليه، شفوقًا به، صبورًا قنوعًا، راضيًا بما قسمه الله تعالى له، بعيدًا عن الطمع والجشع،...إلخ.
لأن هذه هي صفات ( أهل الله ) فمن حرص على أن يكون من أهل هذا الوصف؛ يلزمه أن يحقق صفاته.
كيف وهو يجاور هذا البيت، ويشاهد ما يذكّره بصاحب الشريعة صلى الله عليه وآله وسلَّم من بيته ومربع صباه، وبناء البيت، والأزقة والحارات، والآبار، والشِّعاب،...إلخ.
- الحرص على الأمن الذي خص الله تعالى به هذه البلدة الطيبة المباركة، وجعله مِنَّةً امتنّ بها على أهلها، فلا يكون سببًا في إخلاله، ولا يعمل على تقويضه، وليتذكر دائمًا عقوبة الله تعالى لمن أخلّ بهذا الأمن، سواء من سكانها الذين عبثوا به، أو من خارجها الذين أرادوا الإضرار بها وبأهلها، وما حلَّ بإساف ونائلة، وليتذكر دائمًا ما حلَّ بأبرهة وجيشه، وما حلَّ بتُبَّعٍ وغيره من الجبابرة الأقدمين،...إلخ.
قال الله عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67].
وقال الله جل شأنه: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} [القصص: 57].
ولهذا كثرت الآيات التي ورد فيها ذكر= الأمن والأمان، والحرم والحرام، والمسجد الحرام؛ بما يزيد على عشرين آية، كل ذلك للتنبه والاتعاظ. والله تعالى أعلم
- الحرص على المحافظة على الأرزاق التي ساقها الله تعالى لأهل هذا البلد، خاصة وهو في الأصل ليس فيه زرع ولا نبات، كما قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37].
لذا دعا إبراهيم عليه السلام ربه عز وجل؛ أن يرزقهم من ثمرات الأرض، فقال الله سبحانه وتعالى على لسانه عليه السلام: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 126].
وقال تعالى أيضًا: {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].
فامتنّ الله سبحانه وتعالى على أهلها بجباية ثمرات كل شيء.
فقال الله تعالى: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} [القصص: 57].
وإذا كان الإيمان والتقوى والطاعة...من أهم أسباب الرزق، كما قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96] فإن المعصية هي أهم أسباب زوال النعمة.
ولهذا حذّرنا النبي المصطفى الكريم صلى الله عليه وآله وسلم من مغبة المعصية، وخطرها، وإزالتها للنعمة، وأنه لولا البهائم لم ينزل المطر. ولكن رحمة الله تعالى أوسع من فعل العباد.
- الحرص على ألاّ يكون سببًا في زوال البركة عنها، وعن أهلها وأرزاقها، لأن الله عز وجل جعل البيت مباركًا، ودعا إبراهيم عليه السلام لها بالبركة.
قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96].
وأما دعاء إبراهيم عليه السلام لها بالبركة.
فعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((اللهم إن إبراهيم كان عبدَك، وخليكَ، ودعاك لأهل مكة بالبركة...)) الحديث بطوله [رواه أحمد والنسائي والطبراني برجال ثقات، وصححه الترمذي وابن حبان وابن خزيمة].
ومن ذلك دعاؤه عليه السلام لهم بالبركة في اللحم والماء، والطعام والشراب.
ففي حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما -في قصة مجيء إبراهيم بإسماعيل وأمه عليهم السلام إلى مكة وتفقده لهم بين كل حين وآخر، وفي آخره: فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد فلم يجده [يعني: لم يجد إسماعيل]، فدخل على امرأته فسألها عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا،...فقال: ما طعامكم؟ قالت اللحم، قال فما شرابكم؟ قالت الماء. قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولم يكن لهم يومئذ حب، ولو كان لهم دعا لهم فيه». قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه)).
وفي رواية أخرى، فقال أبو القاسم صلى الله عليه وآله وسلم: ((بركة بدعوة إبراهيم)) [رواهما البخاري]، لكن جاء في غير هذه الرواية: "اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم".
إضافة إلى الأحاديث التي وردت في المفاضلة بينها وبين المدينة في البركة، وهي كثيرة، منها: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه وآله وسلم: ((اللهم اجعل بالمدينة ضِعْفَي ما بمكة من البركة)) [متفق عليه].
- أن يكون حريصًا عليها، محافظًا على نظافتها، وطهارتها، ومعتنيًا بها، وببيوتها، وشوارعها، وأسواقها، ومحلاتها، إضافة إلى نظافة البدن والثياب، والقلب والنفس، فيجمع بين طهارتي الظاهر والباطن.
وهكذا أمر الله تعالى نبيَّيْه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فقال عز وجل: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125].
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخلها اغتسل قبل أن يدخلها.
لذا على الساكن المحافظة على نظافتها، فلا يلقي قمائم ومخلفات بيته في شوارعها؛ فيوسّخها، وكذا ما يلقيه بعضُ الناس أثناء سيرهم في سياراتهم، فقد يضر بالصحة العامة والخاصة، وكذا ما يفعله بعض الأولاد من الكتابة على الجدران...إلخ.
- إن حرمة الكعبة كبيرة عند الله تعالى، ولكن حرمة المؤمن أعظم عند الله تعالى وعند رسوله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حرمتها، ولهذا أمر النبي المصطفى الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بقتل ابنِ خطل؛ ولو كان متعلقًا بأستار الكعبة، لشدة جرائمه. كما أهدر صلوات الله عليه وآله وسلم دماء عدد آخر من المشركين يوم الفتح، فقُتِل بعضهم، وعفا صلى الله عليه وآله وسلم عن بعضهم بعد أن أجارهم بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: ((ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفسي بيده لحرمةُ المؤمن أعظمُ عند الله حرمةً منك)) [رواه الترمذي -وحسنه- وابن ماجه]. وقد ورد عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم.
وأما الكفار فلا حرمة لهم، لذا أمر صلوات الله عليه وآله وسلم بقتل ابن خطل، مع أنهم قالوا: إنه متلِّقٌ بأستار الكعبة -لشدة جرائمه- فقُتل كذلك.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المِغْفَر، فلما نزعه جاء ه رجل فقال: ابن خطَل متعلِّق بأستار الكعبة، فقال: «اقتلوه» [متفق عليه] وقد قتلوه.
بينما أجار صلى الله عليه وآله وسلم ما أجارت أم هانئ رضي الله عنها من المؤمنين.
فعنها رضي الله عنها -في صلاته صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة وفيه- قالت: فلما انصرف [يعني: من صلاته] قلت: يا رسول الله زعم ابنُ أمي عليُّ بن أبي طالب أنه قاتلٌ رجلاً قد أجرته -فلان ابن هُبيرة- فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ)) [متفق عليه].
لذا فليحرص ساكن مكة على حفظ حرمات المؤمنين؛ ودمائهم؛ وأعراضهم، لأن ذلك من تعظيم الحرم، والله تعالى أعلم.
- الحرص على عدم التعرّض لعقوبة الله تعالى وسخطه، وذلك بارتكاب المعاصي التي تُخل بحرمة الحرم، لأن الله عز وجل يغار على حَرَمه (إن للبيت ربًا يحميه) ولهذا عاقب جيشَ أبرهة أصحابَ الفيل؛ بالذي ذُكر في القرآن الكريم، وعاقب قائدَ الفيل، وسائسَه، كما مسخ أسافًا ونائلة؛ لارتكابهما الفاحشة في جوف الكعبة، وأشل يدَ الرجل الذي مدّها يريد امرأته؛ وقد استجارت بالبيت، وكل ذلك كان في الجاهلية، وسيخسف بالجيش الذي يريد غزوَها في آخر الزمان، كما تواتر ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،...إلخ.
فلا يكن الساكنُ شرًا من هؤلاء فيُعاقب، ولا يُسبق بالخير فيفوته.
- إن الهم والإرادةَ والعزم...لا يُكتب خارج الحرمين، بل قد يؤجر الإنسان عليه؛ إن لم يفعله، أما في الحرمين؛ فإذا وصل إلى حد التصميم والتأكيد على الفعل؛ فإنه يُكتب على صاحبه، سواء كان مضرًا بأهلهما؛ أو كان في معتقد ونفس صاحبه، وسواء كان الهامُّ حاضرًا فيهما؛ أم كان بعيدًا عنهما؛ طالما يريد الإيذاء بأهلهما، والله تعالى أعلم.
فمن همَّ بمعصيةٍ أو ظلمٍ أو إلحادٍ،...في مكة؛ فإنه يُكتب عليه، ويعاقب عليه، حتى لو كان الهامُّ بعيدًا عنها حال همِّه.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].
فقد رتب العقوبةَ بالعذاب على إرادة الإلحاد والظلم في الحرم.
وذلك يُكتب على الإنسان ولو كان بعَدَنِ أَبْيَن.
فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه -في قوله تعالى-: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] قال: لو أن رجلاً همَّ بخطيئةٍ -يعني ما لم يعملها- لم يُكتب عليه، ولو أن رجلاً همَّ بقتل رجل عند البيت؛ وهو بعَدَن أَبْين؛ أذاقه الله عذابًا أليمًا.[رواه الحاكم (2: 387)].
- الحرص على العناية بكتاب الله عز وجل، وكتب التفسير، وكتب الحديث، واحترامها، وتقديرها،...لأن القرآن الكريم والسنة النبوية كلاهما وحي -لكن السنة النبوية وحي غير متلو، ولا معجز- ولأن تعظيمها من تعظيم الله عز وجل ورسوله النبي المصطفى الكريم صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد أوجب الله تعالى تعظيمَ البُدن التي تُنحر في الحج، وأن ذلك من تعظيم الله تعالى، لأنها من شعائره.
قال عز وجل: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
فمنطوق الآية: أن من كان في قلبه تقوى؛ فإنه يُعظِّم شعائر الله تعالى، ومفهوم ذلك: أن من لا يُعظِّم شعائر الله تعالى فليس في قلبه تقوى. والعياذ بالله تعالى.
وقد نهى النبي المصطفى الكريم الأمين صلى الله عليه وآله وسلم أن توضع التوراة على الأرض مع أن الذي وضعها هم اليهود، فرفعها صلى الله عليه وآله وسلم، ووضعها فوق الوسادة، مع أن التوراةَ محرَّفة، كما نص عليه القرآن الكريم، وهي دونه منزلة ومكانة، ومع هذا فقد أبى رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم -وهو المهيمن والأمين عليه- أن توضع على الأرض.
فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: أتى نفر من يهود فدعوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إلى القف، فأتاهم في بيت المدراس، فقالوا: يا أبا القاسم إن رجلا منا زنى بامرأة، فاحكم بينهم، فوضعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة، فجلس عليها، ثم قال: ((ائتوني بالتوراة)) فأُتي بها، فنزع الوسادة من تحته، فوضع التوراة عليها،...الحديث بطوله، في قصة رجم اليهوديين.[رواه البخاري ومسلم، وأبو داود واللفظ له].
فقد رفض صلى الله عليه وآله وسلم -بأبي وأمي- أن تُوضع التوراة على الأرض، مع أنها مُحَرَّفةٌ.
ومع هذا فإنا نجد بعض المسلمين يضعون المصاحف الشريفة على الأرض، وذلك عند سجود التلاوة، أو عند قيامهم للصلاة، أو عند انتهائه من القراءة،...وغير ذلك. فبدلاً من أن يضع المصحف الشريف على الحوامل والرفوف -مع أنها بجواره، ولا تبعد عنه إلا قليلاً- إلا أنه يتكاسل، فيضعه في الأرض.
ولا أظن أن المسلم يفعل ذلك بقصد الإهانة للقرآن الكريم، لأن إهانةَ القرآن الكريم كفرٌ؛ ولو وضعه فوق الرؤوس، إنما هو التكريمُ والتعظيمُ.
فليس من تعظيم القرآن وتكريمه وضعُه في الأرض، والمصلِّي يعلوه في قيامه وسجوده وجلوسه، وحاملُ المصحف بجواره.
أسأل الله تعالى أن يلهم المسلمين -خاصة طلبة العلم- احترامَ هذا الكتاب الكريم، وتعظيمَه، وتبجيلَه.
ومثل ذلك كتب الحديث والفقه والأصول ونحوها، وإن كانت كُتب الفقه وما سواها دون ذلك. والله تعالى أعلم.
- الحرص على العلم في الحرم، لأن هذه هي صفة النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم؛ التي دعا إبراهيم عليه السلام بها؛ وسأل الله تعالى أن يرسله في ذريته.
فقال الله عز وجل على لسان إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129].
فمن مهام النبي المصطفى الكريم صلى الله عليه وآله وسلم؛ التي دعا بها إبراهيم عليه السلام: تلاوة الآيات، وتعليم الكتاب، وتعليم الحكمة -وهي السنة- بالإضافة إلى التزكية لهم، والله تعالى أعلم.
- على طالب العلم التأدب مع العلماء، وعلى العامي التأدب مع أهل العلم، فلا يتسرع أحدهم بالإفتاء بحضرة من هو أعلم منه أو من هو أكبر منه، لأن هذا هو دأب الصحابة رضي الله عنهم.
فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من الشجر شجرةً لا يسقطُ ورقُها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي» فوقع الناس في شجر البوادي قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله قال: «هي النخلة».
زاد في رواية: فلما خرجت قلت لعمر: والله لقد وقع في قلبي أنها النخلة. فقال عمر: لِمَ لَم تذكرها؟ فقلت: نظرت فإذا في القوم أبو بكر وعم، فاستحييت أن أتكلم. فقال: والله قلتَ لهو أحبُّ إليَّ من كذا وكذا.
زاد البخاري في رواية: فأردتُ أن أقول هي النخلة فإذا أنا أصغرُ القوم فسكتُّ.
وزاد في أخرى أيضًا: ثم التفتُّ فإذا أنا عاشرُ عشرة، أنا أحدثُهم فسكتُّ.[متفق عليه].
وعن أبي المنهال رحمه الله تعالى قال: سألتُ البراءَ بن عازب عن الصرف، فقال: سل زيدَ بنَ أرقم، فهو أعلمُ، فسألت زيدًا، فقال: سل البراءَ، فإنه أعلم، ثم قالا: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الورق بالذهب دينا» [متفق عليه واللفظ لمسلم].
ولفظ البخاري: فكل واحد منهما يقول لصاحبه: هذا خيرٌ مني.
وهناك نصوص كثيرة في مثل هذا المعنى فيها بيان الصحابة رضي الله عنهم، وكيف كانوا يحيلون على بعضهم في الفتيا، ولا يتسرعون فيها. والله تعالى أعلم.
وهذا ما عليه سلفُ هذه الأمة، لا يحدِّثُ المحدِّثُ بحضرة من هو أكبر منه، أو أعلم، أذكر بعضَ النصوص للعظة والاعتبار.
عن سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه قال: كنتُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غلامًا، فكنتُ أحفظ عنه، وما يمنعني من القول إلا أن ههنا رجالاً هم أسنُّ مني.[الجامع لأخلاق الراوي (1: 318) وتاريخ أبي زرعة (1: 554-555) والاستيعاب (2: 215) وتهذيب الكمال (12: 134).
وقال عبيدُالله بنُ عمر رحمه الله: كان يحيى بنُ سعيد [الأنصاري] يحدِّثُنا، فيسحُّ علينا مثل اللؤلؤ، فإذا طلع ربيعةُ [المعروف بربيعة الرأي] قطع يحيى حديثَه إجلالاً لربيعة، وإعظامًا له.
وقال الحسن بنُ عليّ الخلاّل رحمه الله تعالى: كنا عند المعتمِر بن سليمان يحدِّثُنا، إذ أقبل ابنُ المبارك، فقطع معتمر حديثَه، فقيل له: حدِّثْنا. فقال: إنّا لا نتكلَّم عند كبرائنا.
وعن سلمةَ بنِ كُهيل رحمه الله تعالى قال: كان إبراهيم [النخعي] والشعبيُّ إذا اجتمعا لم يتكلم إبراهيم بشيءٍ لسنِّه.
وقال سفيانُ الثوريُّ لسفيان بن عُيينة رحمهما الله تعالى: مالك لا تحدِّث؟ فقال: أما وأنت حيٌّ فلا.
[ذكر هذه الأقوال وغيرها الخطيبُ البغدادي رحمه الله تعالى في كتابه: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1: 318-321)].
هذا هو أدب العلماء مع بعضهم، وورعهم وتقواهم، وهذه هي ثقتهم بعلم إخوانهم من أهل العلم،...بالإضافة لما يَجب على طالب العلم من التخوف والتورع عن الفتيا، وإحالته على من يكفيه إياها، لا التسرع فيها، من غير طلب ولا تعيين. والله تعالى أعلم.
- الصبر على ما يلاقيه الساكن من البلاء في هذه البلدة المباركة الطَّيِّبة، وذلك لأنه لا يُعلم بلدٌ جرى محاولةُ ذبح الولد فيها سواها.
فقد جرت محاولةُ ذبح إسماعيل؛ من قِبل والده إبراهيم على نبينا وعليهما الصلاة والسلام، للرؤيا التي رآها حتى فداه الله تعالى بذبح عظيم.
قال الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 102-107].
كما جرت محاولة ذبح عبدالله والدِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قِبَل والده عبدالمطلب؛ بسبب النذر الذي صدر منه؛ حتى فداه عبدالمطلب بمائة من الإبل، في قصة معروفة؛ ذكرتها عامةُ كتب السير.
فإذا كان هذا في النفس، فما دونها من ضيقِ عيشٍ وشدةِ حياةٍ؛ وشَظفِ مجاورةٍ؛ وشدةِ حرارةٍ؛ وضغط؛...فهو دون ذلك بكثير، خاصة؛ والغُرْمُ بالغُنْم. والله تعالى أعلم.
- الحرص على عدم الاعتداء على الآخرين؛ بأي وجه كان، خاصة في الأمور المالية؛ التي يغفل عنها كثير من الناس.
عن الحارث بن البرصاء رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -في الحج، بين الجمرتين- يقول: ((من اقتطع مال أخيه المسلم بيمين فاجرة فليتبوأ مقعده من النار)) [رواه ابن حبان والحاكم وصححاه، وأقره الذهبي، والحميدي والطبراني برجال صحيح].
فكيف بالاعتداء على الأعراض والدماء والأنفس ونحوها،...؟
- الحرص على ألا يعامل الساكنُ من تحت يده بالشدة والغلظة والفظاظة والقسوة؛ فينال دعوةَ النبي المصطفى الكريم صلى الله عليه وآله وسلم عليه. بل عليه أن يكون رفيقًا شفوقًا رحيمًا عطوفًا،...بالمسلمين؛ لينال دعوةَ النبي المصطفى الكريم الرحيم صلى الله عليه وآله وسلم له.
فالأستاذُ مع طلابه، والمديرُ مع الأساتذة عنده،...ومديرُ الدائرة مع موظفيه، والموظفُ مع مراجعيه، ومديرُ المصنع والمعمل مع عماله، والحاكمُ مع محكوميه، والإمامُ في مسجده، والقاضي مع مراجعيه،...كلهم يلزمهم أن يكونوا غاية الرفق والشفقة والرحمة والإحسان،...ولا يكونوا شدةً وغلظةً وتنفيرًا.
فعن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في بيتي هذا: ((اللهم مَن وَلِيَ مِن أمر المسلمين شيئًا فشقَّ عليهم؛ فاشقق عليه، ومَن وَلِيَ مِن أَمر أُمَّتي شيئًا فرفق بهم؛ فارفق به)) [رواه مسلم].
وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يرض أن يطيل الإمام في الصلاة، حتى لا ينفِّر الناسَ، واعتبَرَهم منفِّرين عن دين الله تعالى، فمن باب أولى مَن وَلِيَ أمرًا ينفع به المسلمين أو يضرهم.
فعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أيها الناس؛ إن منكم منفِّرين، فأيُّكم أمَّ الناسَ فليوجز، فإن مِن ورائه الكبيرَ والضعيفَ وذا الحاجة)) [متفق عليه].
ولهذا كان رسول الله صلوات الله عليه وآله وسلم إذا دخل في الصلاة وهو يريد تطويلها؛ فسمع بكاء الصبي؛ فإنه يتجوَّز في صلاته؛ رأفة بالصبي وأمه، كما في حديث أنس رضي الله عنه، المتفق عليه.
فإذا كان هذا من رسول الله صلوات الله عليه وآله وسلم؛ وهو الرحمة المهداة، وفي عبادة هي أجلّ العبادات؛ فما عداها من المعاملات من باب أولى. فكيف يكون غيره صلى الله عليه وآله وسلم؟؟؟
لذا فليحرص المسلم الساكنُ -أيّاً كان حاله- أن تناله دعوةُ النبي المصطفى الكريم صلى الله عليه وآله وسلم له بأن يرفق الله تعالى به، ولا تناله الدعوةُ عليه بالشدة. والله تعالى أعلم.
- الحرص على الأموال العامة والخاصة، سواء كان موظفًا، أو عاملاً في أي جهةٍ كان. فإن كان موظفًا فلا يأخذ مما تحت يده، ولا يستعمل ما عنده إلا ضمن المصلحة العامة، ولا يأخذ أكثر من حقه، كما لا يجوز أن يقبل هديةً أو رشوةً،...أو نحو ذلك مقابل عمله، إذا كان يأخذ أجرةً على عمله.
فكل ما يأخذه العامل أو الموظف من هدايا ونحوها، محاباةً وتخفيفًا فهو حرام، لأنه خيانة، وبخس للحق الواجب عليه استيفاؤه لأهله، وهو غُلولٌ، يأت به يوم القيامة، يحمله على كتفه.
بل كلُّ ما يتدرع به الآخذُ إلى محظور أو يوصل إليه: فهو محظور عليه؛ ولو كان قرضًا يجر منفعةً، اللهم إلا أن يكون ممن كان بينهما مهاداة، أو ممن يقبل ذلك قبل عمله، لكن لابد أن يكون ذلك على الحالة السابقة من غير زيادة أو مصلحة.
فعن بُرَيدة بن الحُصَيْب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من استعملناه على عمل؛ فرزقناه رزقًا فما أخذه بعد ذلك فهو غُلول)) [رواه أبو داود بإسناد صحيح، وصححه ابنُ خزيمة والحاكم، وأقره الذهبي، ورواه البغوي والبيهقي].
وعن أبي حُميد الساعدي رضي الله عنه -في قصة ابن اللُّتْبِيَّة- قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ((ما بال عاملٍ أبعثه، فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه، أو في بيت أمه، حتى ينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده، لا ينال أحد منكم منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر ". ثم رفع يديه حتى رأينا عُفْرَتَي إبطيه، ثم قال: «اللهم، هل بلغت؟» الحديث [متفق عليه].
وهذا الحديث؛ وإن كان في الولاة والسعاة ونحوهم، لكنه شامل لجميع العمال العامّين والخاصّين، والله تعالى أعلم.
لذا على المسلم الساكن في هذه البلدة المباركة= الاحتياطُ لدينه، وعرضه، ولا يُوقع نفسَه لغضب الله تعالى ونقمته وعذابه، فلا يأكل مالَ غيره، ولا يظلم أحدًا، ولا يعتدي عليه، والله تعالى أعلم.
- وكذا يلزم كل من يقوم بعمل -مهما كان- أن يؤديه على الوجه المطلوب المتفق عليه، من غير نقصان، ولا تقصير، وأن يبذل قصارى جهده في أداء عمله من غير توان ولا تكاسل ولا تباطؤ، ولا يدخر وسعًا في قيامه بعمله، لأن ذلك من الأمانة التي حُمِّلها الإنسان، وهذا ما قالته ابنة صاحب مدين لأبيها؛ عن موسى عليهم السلام، كما قال الله تعالى على لسانها: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26].
لذا لا يُسند العمل إلا للقوي الأمين، لقدرته على تحمل الأمانة، ولأن ذلك من النصيحة لعامة المسلمين.
لذا عليه أن يكون غايةَ الأمانة في الأداء والعطاء، فلا كتمان، ولا نقصان، ولا تقصير.
فعن عدي بن عميرة الكندي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من استعملناه منكم على عمل، فكتمنا مخيطا فما فوقه، كان غلولا يأتي به يوم القيامة» [رواه مسلم].
لذا فليحذر المسلم من التقصير في أداء عمله، حتى لا يأكل راتبه وهو غير حلال عليه، لأنه يصير سحتًا، وكل لحم نبت من سحت؛ فالنارُ أولى به، والعياذ بالله تعالى.
- الحرص على عدم إيذاء الجار، بأي نوع من أنواع الأذى، وعلى معاملته معاملة كريمة، والإحسان إليه.
والأمرُ بإكرامه يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فقد يكون فرضَ عين، وقد يكون فرض كفاية، وقد يكون مستحبًا، ويجمع ذلك كلَّه: أنه من مكارم الأخلاق.
ومظاهرُ إكرام الجار كثيرة، منها: إذا استقرضك أقرضتَه، وإذا استعانك أعنتَه، وإذا مرض عدتَه، وإن احتاج أعطيتَه،...وإن افتقر عدتَ عليه، وإن أصابه خيرٌ هنَّيتَه، وإن أصابته مصيبةٌ عزَّيته وواسيتَه، وإذا جهل عليك حلمتَ وصبرتَ، وإذا مات اتبعتَ جنازتَه، وإذا أراد وضعَ خشبة على جدارك أذنتَ له وسامحته، وإن اشتريت فاكهةً فاهد له منها، فإن لم تفعل فأَدخلها سرّاً، ولا يَخرج بها ولدُك ليغيظ بها ولدَه، ولا تستطيل عليه بالبناء فتحجب عنه الريحَ إلا بإذنه، ولا تؤذيه بريح قِدْرِك، إلا أن تغرفَ له، ولا تؤذيه بصوتك؛ ولا صوت مذياعك، ولا بالضرب على سطحه -إن كنت تسكن فوقه-، وتحيَّن ساعةَ نومه وراحته فلا تزعجه،...إلخ.
وقد وردت الأحاديثُ الكثيرةُ عن النبي المصطفى الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بعدم الإيذاء، وبالإكرام، والإحسان، والطمأنينة إلى الجار:
فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه..» [متفق عليه].
وعنه وعن أبي شريح رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن» قيل: من يا رسول الله؟ قال: «الذي لا يأمن جاره بوائقه» [رواه البخاري].
والبوائق: الدواهي والشرور، واحدتها بائقة، وهي الداهية؛ والشيء المهلك؛ والأمر الشديد الذي يوافي بغتة.
وعن أبي شريح العدوي رضي الله تعالى عنهما قال: سمعتْ أذناي، وأبصرتْ عيناي، حين تكلم النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره..» [متفق عليه].
وعن أبي هريرة وأبي شريح رضي الله تعالى عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره..» [رواه مسلم].
فهذه أربع حالات: عدم إيذائه، ثم اطمئنانه من شرور جاره؛ ودواهيه المهلكة، ثم طلب إكرامه، ثم طلب الإحسان إليه.
- الحرص على حسن معاملة الأجير والعامل الضعيف والخادم، والرقيق والعبد -إن وُجد- فلا يُلعن، ولا يُسب، ولا يُقَبَّح،... ولا يُضرب، ولا يحمِّلْه ما لا يطيق، ولا يشق عليه، فإن حمَّلَه ما لا يطيق أعانه،...وإذا كانت هذه الأعمال لا تجوز مع العبد المملوك؛ فالأجير الحرُّ من باب أولى،
وقد كثرت النصوص في ذلك، أقتصر على ذكر بعضها للتقريب والتنبيه، وتوضيح خطورة الموضوع.
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما ضرَبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط بيده، ولا امرأة ولا خادمًا، إلا أن يجاهِدَ في سبيل الله، وما نِيلَ منه شيءٌ قط فينتقم من صاحبه، إلا أن يُنتهَكَ شيءٌ من محارم الله تعالى، فينتقمَ لله تعالى.[رواه مسلم].
وهذا في الخادم عامة، والأُمَّةُ تبع لرسولها صلى الله عليه وآله وسلم، أما المملوك:
عن المعرور بن سويد رضي الله تعالى عنه قال: لقيت أبا ذر بالرَّبَذة، وعليه حُلَّة، وعلى غلامه حُلَّة، فسألته عن ذلك، فقال: إني ساببتُ رجلاً فعيّرتُه بأُمِّه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر أعَيَّرته بأمِّه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خَوَلُكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليُطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلِّفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم» [متفق عليه].
فالحديث صريح في بابه، وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العَبيد إخوانًا، شاء الله تعالى ليكونوا كذلك، فكيف بالأحرار المسلمين؟؟؟ فإذا كان هذا لا يجوز بالنسبة للعبد المملوك؛ فالأجير الحر المسلم من باب أولى، والله تعالى أعلم.
وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: كنتُ أضرب غلامًا [عبدًا] لي بالسوط، فسمعتُ من خلفي صوتا: «اعلم أبا مسعود، لله أقْدَرُ عليكَ منك عليه»، فالتفتُّ، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، هو حُرٌّ لوجه الله، فقال: «أما لو لم تفعل؛ لَلَفَحَتْكَ النارُ»، أو «لَمَسَّتْكَ النار» [رواه مسلم].
والحديث صريح في بابه، لو لم يعتقه للفحته نار جهنم، فأين دعاة حقوق الإنسان من هذا الخلق الرفيع؟!
وأما الإحسان إلى الأجير، وإعطاؤه أجره قبل أن يجفّ عرقُه؛ مع عدم تأخيرها؛ أو منعها وتحريم ذلك على المستأجِر؛ فأقتصر على حديث واحد؛ يغني إن شاء الله تعالى لوضوحه وبيانه.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه وسلم: " قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره " [رواه البخاري].
ومن كان الله تعالى خصمَه يوم القيامة لا شك كان من الهالكين، والعياذ بالله تعالى، لذا فليحذر المسلم من الاعتداء على حقوق العباد، خاصة الضعفاء منهم والمساكين، ولا يظنَّنَّ أن لا مدافع عنهم، فإن الله تعالى هو الذي سيتولى أخذ حقوقهم والدفاع عنهم، وردها إليهم يوم الحاجة إليها؛ في يوم القيامة. والله تعالى أعلم.
- أن يكون ساكن مكة المكرمة في غاية الاتباع للنبي المصطفى الكريم صلى الله عليه وآله وسلم في معاملته للجفاة من الأعراب والجاهلين،...وأخذهم بالشفقة، واللين والرحمة والحنو والعطف،...سواء في معاملته لهم، أو في حال إنكاره عليهم، وأمره لهم بالمعروف، أو نهيه عن المنكر.
فالأعرابي الذي جبذ رسول الله صلى الله وآله وسلم من ردائه جبذةً شديدةً، حتى أثّر ذلك في صفحة عنقه الشريف، كيف عامله صلى الله عليه وآله وسلم؟
فعن أنس رضي الله عنه قال: «كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيٌّ، فجبذ بردائه جبذةً شديدةً – قال أنس: فنظرتُ إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أثّرتْ بها حاشيةُ الرداء من شدة جبذته- ثم قال: يا محمد، مُرْ لي من مال الله الذي عندك. فالتفتَ إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضحك، ثم أمر له بعطاء» [متفق عليه].
فانظر كيف عامله رسولُ الله الرحمةُ المهداة صلى الله عليه وآله وسلم يعاملهم في غاية الرفق والشفقة.
فالأعرابيُّ الذي بال في المسجد -جهلاً- فثار الناسُ ليقعوا به، قال لهم رسول الله صلى الله وآله وسلم: (دعوه، وأهريقوا على بوله ذَنوبًا من ماء -أو سَجْلاً من ماء- فإنما بُعثتم مبشرين [وفي رواية: ميسِّرين] ولم تبعثوا معسِّرين) [متفق عليه].
زاد مسلم في روايته: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعاه فقال له: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة وقراءة القرآن».
كيف عامله الرحمةُ المهداةُ صلى الله عليه وآله وسلم؟ لقد أنكر على الصحابة رضي الله عنهم شدةَ تعاملهم معه، ثم دعاه صلى الله عليه وآله وسلم، فنصحه وبين له خطأه، كما بيّن له مكانةَ المسجد، وحسنَ الاعتناء به؛ ووظائفَه.
ومثل ذلك: إنكاره صلى الله عليه وآله وسلم على معاوية بن الحكم السَّلمي رضي الله تعالى عنه، عندما تكلم في الصلاة، وفي آخر الحديث؛ قال معاوية رضي الله تعالى عنه: فلما صلى رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلِّمًا قبله ولا بعده أحسنَ تعليمًا منه، فوالله ما كهرني، ولا ضربني ولا شتمني، قال: «إن هذه الصلاةَ لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس، إنما هو التسبيحُ والتكبير وقراءةُ القرآن» [رواه مسلم].
وهناك نصوصٌ كثيرة فيها: بيان تحمِّل النبي المصطفى الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، وحسن معاملته للجفاة وللجهال، يتألفهم ويرفق بهم، ويرحمهم.
لذا يلزم العطفُ من العالم على الجاهل، ومن المتعلم على الجافي، ومن السهلِ على الحزن، ومن القويِّ على الضعيف ويرحمه، والمسؤول على من تحت يده ويشفق عليه،...والله تعالى أعلم.
- الحرص على عدم التعالي بالنسب أو الحسب أو القبيلة أو البلد أو المنصب والمكانة، ذلك أن الله تعالى؛ وإن فضَّل قريشًا على سائر العرب، وفضَّل بني هاشم على سائر قريش، فلا يعني ذلك أن يتفاخر من فُضِّل أصله على غيره، ولا يشمخ عليهم، كما لا يشمخ ساكنُ الحرم على غيره من المسلمين، بأنه من سكان الحرم، فقد يكون غيرُه أفضلَ عند الله عز وجل منه، لذا ما عليه إلا أن يتواضع، حتى يرفعه الله تعالى.
فعن واثلة بن الأسقع رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إن الله اصطفى كنانة من وَلد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» [رواه مسلم].
وقد ورد هذا المعنى عن عدد من الصحابة الكرام رضي الله عنهم.
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنهما قال: مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لرجل عنده جالس: «ما رأيك في هذا؟» فقال: رجلٌ من أشراف الناس، هذا والله حريٌّ إن خطب أن يُنكح، وإن شفَعَ أن يُشفَّع، قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما رأيك في هذا؟» فقال: يا رسول الله، هذا رجلٌ من فقراء المسلمين، هذا حريٌّ إن خطب أن لا يُنكح، وإن شفَعَ أن يُشفَّع، وإن قال أن لا يُسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا خيرٌ من ملء الأرض مثل هذا» [رواه البخاري].
وعن أبي ذرّ رضي الله تعالى عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انظر أرفع رجل في المسجد" قال: فنظرتُ، فإذا رجلٌ عليه حُلّةٌ. قال: قلتُ: هذا. قال: قال لي: "انظر أَوْضَعَ رجل في المسجد". قال: فنظرت، فإذا رجل عليه أخلاق. قال: قلتُ: هذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لهذا عند الله أَخْيَرُ يوم القيامة من ملء الأرض مثل هذا" [رواه أحمد وابن أبي شيبة ووكيع وهناد والبزار والطبراني وابن حبان بأسانيد صحيحة].
لذا على المسلم أن يتواضع، لأن من تواضع لله تعالى رفعه الله عز وجل، فلا يعتز بنسب أو قبيلة أو بلد أو عشيرة، أو...إلخ، لأن البلد لا يقدِّس الإنسان، والنسب لا يُقدِّس صاحبَه –خلا نسب النبي المصطفى الكريم صلى الله عليه وآله وسلم- إضافة إلى أنه لا فرق بين إنسان وآخر، فكلهم أبناء آدم، ومولودون من ذكر وأنثى، إنما العبرة بالعمل، والتقوى، والمنزلة عند الله تعالى، وأن الله جل شأنه لا ينظر إلى الصور والأجساد، ولكن إلى العمل والقلوب، لذا فمن أثار نعرةً رُدت عليه.
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بال دعوى الجاهلية؟ قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين، رجلا من الأنصار، فقال: «دعوها، فإنها مُنتِنةٌ» [متفق عليه].
ويوضح ذلك قوله صلوات الله عليه وآله وسلم في خطبة أيام التشريق في منى؛ يومَ حجة الوداع: "أيها الناس! إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر؛ إلا بالتقوى" [رواه أحمد بإسناد صحيح].
لذا فليحذر ساكنها التعالي بأي شيء؛ إلا بعلمه، إذا عَلِم قبولهَ، وأنَّى له ذلك، لذا عليه التواضع، وعلى المسلمين الإكرام والتقدير. والله أعلم.
- على الزوجين معرفة حقوقهما، وواجباتهما، فإذا عرف كلُّ واحد منهما حقوقَه الواجبةَ له، وواجباته المترتبةَ عليه،...وطبَّقا ذلك ساد البيتَ جوُّ الهناء والسعادة والسرور،...
لذا على الرجل الحرص على مداراة المرأة، وحسن العشرة معها، وحسن الإنفاق عليها، وصيانة عرضها، وحفظ سرها، والاعتناء بها، ووجوب العدل بينها وبين ضرتها، والصبر عليها، وحسن الوصية بها، وعدم ضربها في أماكن ظاهرة كالوجه، وكذا بأداة جارحة أو حادّة، ولا يكون بقوة أو انتقام،...لأن هذا كله مخالف لأمر الله تعالى وأمر رسوله المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم، إنما يحق له تأديُبها شريطةَ أن يكون غيرَ مبرِّح،...إلخ.
وعلى المرأة معرفة عظم حق زوجها عليها،...ووجوب طاعته في المعروف، وتحقيق طلباته المشروعة، وتحريم إيذائه، ورفع صوتها عليه، ووجوب إقرارها في البيت، وعدم خروجها منه إلا بإذنه، وعدم إذنها لأحد إلا بإذنه، ووجوب محافظتها على ماله وبيته وأولاده وأسرار بيته، ولا تنفق من ماله إلا بإذنه، ولا تتسرع بطلب الفراق بدون ما بأس، والخلاصة= عليها أن تعلم أنه هو جنَّتُها ونارها.
وإن حصل خلاف بينهما -لا قدّر الله- فلا يكن ذلك أمام الناس؛ حتى الأولاد، وليكن في غرفة النوم، وليتدرج الرجل في معاملة المرأة، ولا يتسرّع إلى المحاكم؛ أو التحكيم، فضلاً عن إيقاع الطلاق.
ولينظر كل واحد منهما كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعامل زوجاته رضي الله عنهنّ كزوجات، وكيف كنَّ رضي الله عنهنَّ يعاملنه صلى الله عليه وسلم كزوج.
- أن يكون الآباء في غاية الحرص على أبنائهم؛ في صلاحهم، واستقامتهم وفلاحهم، ليكونوا معهم يوم القيامة، لأن الله عز وجل سيرفع الأبناء إلى منزلة الآباء، ولا ينزِّل منزلة الآباء منزلة الأبناء، يعنى أن الله تعالى يرفعُ المقصِّرَ إلى مرتبة المرتفع، لا بالعكس، بشرط وجود الإيمان منهم.
قال الله جل وعز: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21].
فهو عز وجل يرفع الذُّرِّيةَ لمقام الآباء، لتقر أعينهم، ولا ينقص من أعمال الآباء من شيء.
وهذا ما نراه في دعوات إبراهيم لولده إسماعيل عليهما السلام؛ وحرصِه على ذريته من بعده، سواء في أمر الدنيا أو في الدين.
ففي أمر الدنيا:
قال الله عز وجل على لسان إبراهيم عليه السلام: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].
وفي أمر الدين:
لما أخبر الله عز وجل إبراهيم عليه السلام أنه جعله للناس إمامًا؛ يُهتدى به؛ ويقتفى أثره؛ تحركت في نفسه عليه السلام عاطفةُ الأبوة، والحرص على الذرية، لذا سأل الله عز وجل أن يجعل هذه الإمامةَ في ذرِّيته، لكن الله تعالى أخبره أن الإمامة لا ينالها الظالمون من عباده.
قال الله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124].
لذا تحركت في نفسه على نبينا وعليه الصلاة والسلام من جديد عاطفة الأبوة؛ والحرص على الأبناء، فسأل الله عز وجل أن يجنبهم عبادة الأصنام، ليكونوا مؤمنين موحدين، فيُكرموا من جديد.
فقال جل شأنه على لسانه عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].
ففي هذه الآيات الكريمة بيانُ حرص الوالد على أولاده في شؤون دينهم ودنياهم، في معتقدهم وعبادتهم،...في سلوكهم وحياتهم، في معاشهم ومعادهم،...ومَن أولى بذلك من أهل مكة وساكنيها، وقد كانت هذه الدعوات في بلدهم؟! والله تعالى أعلم.
- الحرص على تعليم الأولاد الآداب الشرعية الخاصة، مبتدئًا بمحبة الله تعالى، والتوكل عليه، والثقة به تعالى، وحمده وشكره،...ومحبة النبي المصطفى الكريم صلوات الله عليه وآله وسلم، وطاعته، واتباعه، ومعرفة مكانته، ومنزلته،...ومحبة الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ومعرفة مآثرهم، ومفاخرهم، ومكانتهم،...وتعظيم القرآن الكريم وتفسيره، والسنة النبوية الشريفة، والسنة النبوية المباركة، وكتبهما، وكتب العلم،...إلخ.
لقد كان الصحابةُ الكرام رضي الله تعالى عنهم يقولون لأبنائهم: علِّموا أولادكم المغازي، فإنها شرف آبائكم.
حتى ينشأ الولد نقيّاً تقيّاً محبّاً صالحاً،...وهذا من أولى الواجبات.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتني بالأولاد، فيعتني بعقيدتهم؛ كما يعتني بأجسادهم، ويعتني بدينهم؛ كما يعتني بأوقاتهم، فيعلّمهم التوكل على الله تعالى، والاعتماد عليه،...
فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «يا غلام احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء
لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف» رواه أحمد، وصححه الترمذي والحاكم، وأقره الذهبي، ورواه عبد بنُ حميد، والآجري، والطبراني، وابنُ السني؛ في آخرين].
فقد علّمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الاعتمادَ على الله تعالى، والتوكل عليه، وأن ما في الكون لا يكون إلا على وفق ما أراد الله سبحانه وتعالى.
وقد كان الله عز وجل قد أمر نبيه المصطفى الكريم صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون كذلك، ولا يعتمد على أي مخلوق مهما كان، طالما أن المخلوق يموت، وإنما عليه أن يعتمد ويتوكل على الحي الذي لا يموت، وهو الله جل شأنه، وعلى الأمة أن تكون كذلك، فقال الله تعالى له: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58].
- وأن يعلمهم الفرائض والواجبات، والنوافل والمستحبات، والمحرمات والمكروهات،...من العبادات والمعاملات والأخلاق،...حتى لو خالفوا سنَّةً نبههم، أو مندوبًا عرَّفهم، وإذا ارتكبوا مكروهًا أرشدهم، أو خِلافَ الأولى بيَّن لهم،...فكيف لو تركوا واجبًا، أو فعلوا محرَّمًا أو كبيرًا؟؟؟
لما قام عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم قيامَ الليل في بيت خالته ميمونة -أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها- وقام عن يسار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ أخذ صلى الله عليه وآله وسلم بأذنه، وأقامه عن يمينه، كما في حديثه رضي الله عنهما، المتفق عليه.
ولما أكل عُمرُ بن أبي سلمة رضي الله عنهما -ربيبُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يومئذ صغير- مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وطاشت يدُه في الصحفة، أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده، وقال له: «يا غلام؛ سمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك» كما في حديثه رضي الله عنهما، المتفق عليه.
وهناك نصوص كثيرة فيها تنبيه النبي المصطفى الكريم صلى الله عليه وآله وسلم الأولاد والأطفال عما صدر منهم من أخطاء، وتنبيهات على ما وقع منهم من مخالفات.
- أن يعلمهم الآدابَ الشرعيةَ العامةَ المتعلقةَ بالناس؛ من الحب في الله، والبغض في الله، وتوقير الكبير، وذي الشيبة المسلم، ورحمة الصغير، وإجلال العالم، وبر الوالدين، وصلة الرحم، والوفاء بالعهد، وإكرام الضيف، وحسن الجوار،...وحفظ اللسان، وغض البصر، وستر العورة، والغيرة، وقبض اليد عن المحرمات، والزهد في الدنيا، والاقتصاد في المأكل والمشرب، وحسن الاستئذان، وعيادة المريض، وتشميت العاطس، وإماطة الأذى، وحفظ السر، والتعاون على البر والتقوى، والابتعاد عن الإثم والعدوان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وموادَّة المسلمين، وحسن التعامل معهم، والعطف عليهم، وعدم النيل من أعراضهم، وعدم التعالي عليهم، وكراهية الكفار والمشركين، ومن شايعهم،...إلخ.
ويعلمهم آداب النوم المبكر، وأنه لا سهر إلا في طاعة الله تعالى، أو أمر مباح، ويعلمهم آداب الطعام والشراب، سواء أكلوا بمفردهم أو مع الآخرين، وما هو المحبوب، وما هو المكروه؛ من المطعومات؛ والمشروبات، وما هي عادات أهل مكة الاجتماعية المحمودة في ذلك.
- الحرص على ترسيخ حُرمة الحرم في أذهان الناشئة، وتعليمهم حرمة مكة، ومنزلتَها، ومكانتَها، والواجب نحوها، والأخذ بآداب العيش فيها، وتعليمهم المآثر الموجودة فيها، وفضائلَها، ومناقبها، وما ورد في كتاب الله تعالى، وسنة نبيه المصطفى الكريم صلى الله عليه وآله وسلم فيها، والتحذير من مخالفة ذلك،...والوعيد على العصيان فيها، وخطورة المعصية، وحسن معاملة الناس فيها،...إلخ.
ويتوجب على هذا أن يكون الكبار أنفسهم عارفين بذلك كله، وما يتوجب عليهم من القيام بحق هذه المسؤولية عليهم، ولقد رأيت كثيرًا من الكبار -مع الأسف الشديد- لا يعرفون شيئًا عن مآثر هذه البلدة المباركة، ومعالمها،...وواجباتهم نحوها.
ولغفلة كثير من الكبار عن ذلك؛ شط كثيرٌ من الأولاد، ووقعوا في كثير من المخالفات الشرعية، ابتداء من صيد حمام الحرم،...إلى انتهاك الحرمات، مرورًا بكثير من المزعجات، كعدم احترام كبير، أو امرأة، أو عدم تبجيل عالم، أو رحمة صغير،...أو رفع صوت إذاعة؛ سواء في بيت أو سيارة، أو سرعة بها، أو رفع صوتٍ بغناءٍ ونحوه، خاصةً في ساعات الليل المتأخرة، أو القيام بحركات مريبة،...إلخ.
- حرص النساء فيها على مساعدة الرجال في تربية الأولاد، وحنوهنّ عليهم، وتعليمهم آداب البيوت، والسلام، والجوار، وحفظ العورات، وحفظ الأسرار العائلية،...خاصة في حال صغر، إضافة إلى حسن رعاية الزوج، والتبعّل له،...إلخ، لأن هذا هو شأن نساء قريش.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده» [متفق عليه].
ففي هذا الحديث الشريف أمران:
- الحنو على الولد في حال الصغر، خاصة بعد اليُتم.
- مراعاة حقوق الزوج، فهي أمينةٌ مؤتمنةٌ،...تحفظه وترعاه، وتصون عرضه وماله، ولا تبذِّر فيه، ولا تنفق منه إلا بقدر الحاجة.
- على نساء مكة أن يكنّ أسرع النساء تطبيقًا لشرع الله عز وجل، وتنفيذًا لأحكامه، وأخذ أنفسهن بالحشمة والتطبيق،...لأن هذه هي صفة المهاجرات القرشيات الأول رضي الله عنهنّ.
فعن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: "يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] شققن مروطهن، فاختمرن بها".
وفي رواية عنها رضي الله تعالى عنها قالت: «أخذن أُزرهنّ فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها» [رواهما البخاري].
- الحرص على خيرات مكة، وخاصة المياه فيها، لأنها بلدٌ غيرُ ذي زرع، قليلةُ المطر، ولأن مياهها جلب، وليس فيها نهر، إنما هي مياه جوفية، اللهم إلا زمزم؛ وبعض الآبار التي حفرها الناس.
وإذا كان لا يجوز الإسراف في الماء في أي مكان؛ وعلى أي وجه كان، فلا يجوز الإسراف في المياه فيها من باب أولى.
في الوضوء والطهارة -وهما واجبان شرعًا- فما ليس بواجب فمن باب أولى، كالإسراف في غسل السيارات؛ والبيوت،...والسلالم "الدرَج" ونحو ذلك.
إضافة إلى أن الذنوب والمعاصي والآثام،...هي من أهم أسباب ضياع الخير؛ وإزالة النعم.
وقد حذّر الله تعالى الأمة بثلاث عقوبات؛ إما بحبس القطر من السماء، وهذا ظاهر في هذا الزمان، وإما بتغويره وإذهابه في جوف الأرض، وهذا مشاهد الآن أيضًا، إذ جفّت كثير من الآبار والعيون، وإما بتغيير طبيعة الماء، سواء بتملح أو مرارة ونحو ذلك، وقد وقع في بعض البلاد، لكنه لم يكن عامّاً، ولله الحمد.
والعالَم مقبلٌ على جفاف، ونسمع كثيرًا الحديثَ في البحث عن مصادر للمياه،...ويتخوف الناس من قيام حروب بسبب المياه، لذا يجب على ساكنها ألا يكون سببًا في زوال هذه النعمة، أو إنقاصها، والعياذ بالله تعالى.
- العمل على تعمير مكة وبنائها، واستصلاح أراضيها، وزراعة بساتينها المحيطة بها، وإيجاد المنافع والمصانع والمعامل بها،...والعمل على صرف أموال أهلها بها،، لا أن تُصرف خارجها إلا لمصلحة، لذا على الأغنياء فيها استثمارُ أموالهم في مشاريع يعود نفعها على أهلها بالخير والسعادة والرفاهية والهناء، كبناء المدارس والكليات والمعاهد والمستشفيات، ونحو ذلك، لأن في ذلك تحقيقًا لدعوة إبراهيم عليه السلام.
قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة: 126].
فقد سأل الله تعالى لمكة أن تكون بلدًا، وأن تكون آمنًا، والبلد لا يكون إلا بعمرانه بكل وجوه العمران. والله تعالى أعلم.
- الحرص على عدم الخروج منها؛ للسكنى في غيرها، وذلك لفضل السكنى في مكة، إضافة إلى ما جُبل عليه الإنسان؛ من حرصه على بلده الذي وُلد ونشأ فيه، فكيف إذا كان كالحرمين؟!
ولهذا لما قال ورقة بن نوفل رضي الله عنه للنبي المصطفى الكريم صلى الله عليه وآله وسلّم عند نزول الوحي عليه ما قال؛ لم يتأثر صلى الله عليه وآله وسلّم بادئ الأمر ولم يظهر عليه شيء، ولم يستنكر صلى الله عليه وآله وسلّم، فلما ذكر له إخراجَه من مكة؛ تعجب من ذلك واستنكره.
فعن عائشة رضي الله تعالى عنها -في قصة نزول الوحي على النبي المصطفى الكريم صلى الله عليه وآله وسلّم وذهابه إلى ورقة، وفي آخره-: قال ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو مخرجيّ هم» [متفق عليه].
ففي الحديث دلالةٌ على حبّ الوطن، وعدم مغادرته إلا لمصلحة، خاصة إذا كان كالحرمين.
- الحرص على آثار مكة، منقولة كانت؛ أو غير منقولة، ذلك لأن كثيرًا من معالم السيرة النبوية الشريفة -خاصة في العهد المكي- لا تُعرف؛ ولا تُعلم حقيقتها؛ إلا إذا عُلم موقعها، والأمم -على مرّ العصور- حريصةٌ على آثارها،...مع أن آثارها لا تعادل شيئًا بالنسبة للآثار الإسلامية، وأغلب الآثار الإسلامية في الحجاز، والأغلب منها في الحرمين، وقد خفيت معرفةُ كثيرٍ منها على كثير من أهلهما، فضلاً عن غيرهما، وقد سألتُ كثيرًا من أهل العلم والفضل عن بعض قضايا وردت في الحديث وفي السيرة؛ فلم يعرفوها، أما غيرهُم فهم أبعد من ذلك، إذ لا يعرفون كثيرًا من البدهيات في مواقع السيرة.
وهذا والله: عقوق -بل لعله أدنى مراتب العقوق- وإلا فكيف بمسلم لا يعرف أين وُلد النبي المصطفى الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، وأين مكان قبره، وكم بينه وبينه من الزمن، والأمم تحرص على بقايا من آثار أجدادها؛ وتجعل لها المتاحف.