رغم كل محاولات المشركين للحيلولة بين المسلمين وبين الهجرة إلى المدينة؛ إلا أن المسلمين تمكنوا من الخروج، خرجوا أرسالا يتبع بعضهم بعضًا، وبعد شهرين وبضعة أيام من بيعة العقبة الكبرى لم يبق بمكة من المسلمين، إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعلي رضي الله عنهما، أو مفتون محبوس، أو مريض، أو ضعيف عن الخروج.
ولما رأت قريش أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين؛ عرفوا أنهم قد نزلوا دارا، وأصابوا منهم منعة، ، فشعروا بخطورة الأمر، وخافوا خروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم، وأن يجمع لحربهم، فاجتمع سادتها في دار الندوة يتشاورون فيها ما يصنعون في أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، واستقرّ رأيهم في نهاية المطاف على قتله والتخلّص منه.
قال الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى: اتفق زعماء قريش على ارتكاب أكبر جريمة في تاريخ الجنس البشري، وهي قتل الرسول -صلى الله عليه وسلم-، جريمة لو تمت لكنا اليوم على حال لا يعلمها إلا الله.[كتاب رجال من التاريخ].
ولما تم اتخاذ القرار الغاشم بقتل النبي صلّى الله عليه وسلم أذن الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة إلى المدينة، وأطلعه سبحانه وتعالى على تبييت المشركين قتله، وأنزل عليه قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن يبيت في فراشه -صلى الله عليه وسلم- ليؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس.
فذهب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بكر -رضي الله عنه- ليخبره بذلك، وليرتّب معه أمر الهجرة. واستأجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر -رضي الله عنه-، عبد الله بن أريقط ليدلّهما على الطريق، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما اللتين أعدّهما أبو بكر للهجرة. فلما حانت ساعة الصفر غادر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منزله إلى منزل أبي بكر -رضي الله عنه، فخرجا سرًا، وسلكا طريقا غير معهودة، فبدلا من أن يسيرا نحو الشمال ذهبا إلى الجنوب حيث يوجد غار ثور، اختاره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليأوي إليه لتضليل المشركين، وذلك لأنه يعلم أن قريشًا ستجدّ في طلبه، وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسي المتجّه شمالا، فقد سلك الطريق الذي يضادّه تمامًا، وهو الطريق الواقع جنوب مكة.
ولما خرج الرسول -صلى الله عليه وسلم- من مكة أخذ ينظر إليها نظرة الوداع، وهو يقول: (والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت)، ويقول: (ما أطيبَكِ من بلد وأحبَّكِ إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك) [صححهما الألباني في صحيح الجامع]. جنّ جنون قريش حينما تبيّن لها خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه، وصاروا يهيمون على وجوههم طلبًا لهما، وجعلوا لمن يأتي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه إلى قريش مكافأةً ضخمة قدرها مائة ناقة.
عند ذلك ركب الفرسان وقصّاص الأثر في كل وجه، وانتشروا في الجبال والوديان يطلبون رسول -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه، واشتدّ الطلب، لكن من دون جدوى. حتى انتهوا إلى الجبل الذي فيه الغار، وصعدوا الجبل، ووصلوا إلى فم الغار، ولم يبق بينهم وبين العثور على الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه إلا أن ينظر أحدهم إلى تحت قدميه.
وعندما أحاط المشركون بالغار، وأصبح منهم رأي العين طمأن الرسول صلى الله عليه وسلم الصديق بمعية الله لهما، فعن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه - قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: (ما ظنّك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟) [رواه البخاري]. وسجّل الحق -عز وجل- ذلك في قوله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].
أقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه في الغار ثلاث ليال، حتى إذا خمدت عنهما نار الطلب، وسكن عنهما الناس؛ جاءهما عبد الله بن أُريقط بالراحلتين، فارتحلا، وانطلق معهما عامر بن فهيرة يخدمهما.
وكان خروج الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه من الغار في آخر ليلة الاثنين في السَّحر، لأربع ليالٍ خلون من شهر ربيع الأول.
خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تاركًا مكة -بلدته التي وُلد فيها، وقضى طفولته وشبابه في ربوعها؛ ومحبوبته التي طالما أحبّها، وله فيها ذكريات عزيزة- تاركًا إياها خلف ظهره، وكله شوقٌ وأملٌ أن يكتب الله تعالى له الرجوع إليها مرة أخرى، وهذا ما حصل بالفعل، فقد بشّره ربه عز وجل بأنه سيرجعه إليها منتصرا، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85].
روى الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}، قال: إلى مكة.[انظر: كتاب اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون -بتصرّف-].
وقد تأكّد ذلك الوعد الرباني؛ عندما أعاده عز وجل إليها في فتح مكة، فدخلها فاتحًا منتصرًا، معظّمًا لها، مبينًا علوّ شأنها ومكانتها، ومعلنًا حرمتها الأبدية إلى يوم القيامة.
الباحث بمشروع تعظيم البلد الحرام