إنّ من رحمة الله تبارك وتعالى أنّه لا يُكلِّف الناس ويؤاخذهم على ما لم يكن في استطاعتهم، والشريعة قائمة على الإمكان والقدرة، قال الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، والمرء مسؤول عن حماية نفسه ومنعها من الضرر، وكذلك مع غيره، فكل ما أحدث ضررًا محقَّقًا؛ فإنه مرفوع في الدين الإسلامي، ومأمور بإزالته ومنع حصوله؛ وإن كان عبادة شرعية، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال تعالى في شأن فريضة الحج: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، وحين نتأمّل [من استطاع إليه سبيلا]، نجد قاعدة شرعية محكمة، تأكّدت في الحج خاصة لارتباطه بالسفر وما يلحقه من لزوم الأمن والحاجة إلى الزاد ووسائل النقل وغيرها.
ومع هذه الجائحة التي أصابت البشر جميعا، وذهبت بكثير من النفوس وعطّلت السبل؛ يتأكد التنبيه على أمر الاستطاعة والخوف من زيادة تفشي الوباء بتحوّراته المختلفة، فالحج ليس شعيرة فردية خاصة تُقام في عزلة عن الناس، بل غايته الاجتماع بتوحيد المكان والزمان والهيئة، وهذا يجعل التحوط معه أكثر من غيره.
ولا يخفى ما أحدثته هذه الجائحة من الأثر العميق في الحياة، وذلك عند تسللها لكافة التفاصيل الاجتماعية، ففي لمح البصر غيَّر الناس أسلوب العيش، ونظام العلاقات واللقاءات، بل ونمط التفكير، وجرت إعادة ترتيب الموازين والأولويات!
ومن هنا على المرء أن يحتسب الأجر في كل شؤونه، ويصدُق مع الله في ذلك، ويبسط العذر للآخرين، فمن لم يتمكن من الحج؛ فليعلم أنه مرفوع الحرج، ومأجور على ما في قلبه من الحب والشوق لبيت الله الحرام.
ولأبي حيان التوحيدي الأديب المتنسِّك في مناجاته كتابا من الفرائد المبتكرة في تراثنا العلمي باسم: «الحج العقلي إذا ضاق الفضاء عن الحج الشرعي»، وهو من المصادر المفقودة، ولا يتوهم المرء أنّ ذلك خرافة لإلغاء الحج، بل عنوان أدبي مجازي، قد يعد بلسما لنفوس المشتاقين إلى البلد الحرام؛ وحبسهم العذر، ومراعاة التطهير للكعبة المشرفة، وحفظ الناس بسلام آمنين، وسيحدث الله أمرا ويكشف الغمة عن الناس، ويكتب الحج لكل راغب (بإذن الله) كما كُتب لاحقا للتوحيدي رحمه الله عندما نصّ على ذلك في كتابه الإشارات الإلهية، وحج ماشيا مع عدد من متصوفة زمانه.. نسأل الله من فضله.