يقول الشيخ الفقيه والأديب علي الطنطاوي -حاكيًا قصة غار حراء-: كان الجبل بِدْعًا في الجبال، جبلين ركب أحدهما فوق الآخر..أما الأسفل فجبل عادي، وأما الأعلى فقطعة واحدة من الصخر الأسود الأملس كأنه بيضة كسرت رأسها، ثم أقمتها عليه، أو كأنه قبة مصنوعة بالإزميل -أي المطرقة- ذاهبة في السماء ... كنا قد بلغنا القمة بعدما تقطعت أنفاسنا، ونشفت حلوقنا، وبلغت أرواحنا التراقيَ، ونظرنا فإذا نحن كالمعلَّق في السحاب، وإذا الدنيا كلها أسفل منا، وإذا نحن لا كمن هو على ظهر جبل، ففي الجبال ما على ظهره من فلوات فساح، بل كمن على ظهر عمارة سامقة، وإذا ذروة الجبل لا تزيد مساحتها عن مساحة غرفة من الغرف، أما الغار فكان تحتنا في مكان لا يمكن أن يصل إليه إلا من يتدلَّى ثم يمر من شق في الجبل حتى يبلغ فرجة في الصخر، كأنها وَكْرُ نَسْرٍ، ما أحسب طولها يعدو المترين، ولا يبلغ عرضها المتر، وكان هذا غار حراء ... فقلت في نفسي: إننا لم نصل إلى القمة ونحن جماعة، ونحن نصعد على درج منحوتة، حتى أشرفنا على الموت، فكيف كان الرسولُ صلى الله عليه وسلم يصعد وحده، وكيف عرف مكان هذا الغار، إلا أن يكون قد ارتاد هذه الجبال كلها وبلغ أعاليَها، وكيف كان يقيم وحده اللياليَ ذواتِ العدد، وما حوله إلا هذه الجبال السُّود، وهذه الوحشة الصامتة الراعبة؟ ونظرتُ فإذا كل شيء من حولي صامتٌ صمتَ الرهبة، ساكن سكونَ الجلال لا نَأْمَة ولا حس ولا حركة، ولا شيء يشغَلُ الإنسان عن التفكير في السماء، والكعبة تبدو من بعيدٍ وسط هذا الإطار الصخري، فمن كان في الغار كأنه في الدنيا وما هو في الدنيا، يرى الكعبة وحدها فيتصل منها بكل ما هو سماوي طاهر، ويخفى عليه كل شيء غيرها، فينفصل عن كلِّ ما هو أرضي ملوّث.
وقالت لي النفس: بماذا كان يفكر محمد صلى الله عليه وسلم وهو يقضي الأيام والليالي وحيدًا في هذا الغار؟
فقلت: أنا أعرف -ويحك- بماذا كان يفكر محمد؟ أنا أسمو بعقلي الأرضي المثقل بالشهوات والمطامع إلى جوّ محمد؟ أتطمع الزواحف أن تزاحم العِقبان في أكباد السموات؟
وقعدت خاشعًا مفكرًا. وانطلق ذهني يرتاد جنبات الماضي الحبيب، يتصوّر محمدًا صلى الله عليه وسلم وهو في هذا المرقب العالي وحيدًا مفردًا؛ حين جاءه البريد من فوق السبع الطباق برسالة من الله؛ وقال له: اقرأ.
من هذه الصخرة الصمّاء سال الماء الذي روّى فَيافي الجزيرة، فأخرجت للناس جنّات الشام وبغداد والقاهرة وقرطبة ودهْلي.
من هذه القَفْر الموحشة استمدت دنيا الحضارة خِصْبها وفنها ونماءها.
من هنا، في ظلمة الليالي السود التي كانت تغمر دنيا الناس؛ قبسنا الشعلة.
من هنا أخذنا المنار الهادي، فحملناه شرقًا وحملناه غربًا، فضوَّأنا للمدنيّة الخيّرة طريقها خلال القرون.
فهل نعود إلى حراء؛ لتعود لنا منزلتنا في الأرض؛ ويعود لنا النصر والعزّ والعلاء؟