تبرّع الأن

الناس في هذه الدنيا تختلف رغباتهم فيها بحسب ما رسموا لأنفسهم من أهداف، فذاك تستهويه الدنيا فيعبّ منها حتى الثمالة، وآخر ليس يعبأ بها البتة، فلا هو للدنيا طالب، ولا هو للآخرة راغب، وثالث يأخذ من الدنيا ما يكون سببًا في نيل الدرجات في الآخرة.

ولا شك أن المال – كما قال النبي صلى الله عليه وسلم-((حلوة خضرة))([1]) لا يكاد يكتفي منه امرؤ ويشبع إلا ما ندر، حتى لو قُدر أن له وادٍ من ذهب لتمنى - طمعًا - في آخر، ولن يملأ فاه إلاّ التراب، ويتوب الله على من تاب([2]). بيد أن الله تعالى جعل لباذله في سبيله أوفى الدرجات، ليستأثر المسلم حب الله تعالى على كل شيء ﭽ ﯣ  ﯤ  ﯥ  ﯦ  ﯧ  ﯨ  ﯩ ﭼ ورغب فيه ليكرمه  ﭽ ﯪ  ﯫ  ﯬ   ﯭ ﭼ  (البقرة: ٢٤٥).

والنفس البشرية ضعيفة شحيحة، إلا من عصم الله، ولا تطهر من هذا الشح إلا أن تعمر بالإيمان، وترتفع على ضرورات الأرض، وتنطلق من قيود الحرص على النفع القريب، لأنها تؤمل في خلْف أعظم، وتؤمل في رضوان من الله أكبر ﭽ ﯼ   ﯽ  ﯾ  ﯿ  ﰀ  ﰁﰂ  ﰃ  ﰄ& ﰅ  ﭼ (سبأ: ٣٩).

وحين يصبح المال في اليد لا في القلب؛ فإن مالكه يتصرف فيه كيف يشاء، ولن يضنّ به أبدًا في أيّ وجه من وجوه الخير، ولكن الرزيّة كلّ الرزية، أن يصبح حب المال مركوزًا في القلب، ويصعب عليه حينها إخراج ما أوجبه الله عليه من حق الزكاة أو الصدقة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما، فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه حتى تغشى أنامله وتعفو أثره، وجعل البخيل كلما همّ بصدقة قلصت وأخذت كل حلقة بمكانها))([3]). فحين يقفر القلب من الإيمان الصحيح، فالشح الفطري يهيج في نفسه كلما دعي إلى نفقه أو صدقة، والخوف من الفقر يتراءى له فيقعد به عن البذل، ثم يبقى سجين شحه وخوفه بلا أمن ولا قرار.

والناس كثيرًا ما يخوضون في الملهيات وربنا يرشدنا فيقول: ﭽ  ﭒ    ﭓ  ﭔ  ﭕ  ﭖ  ﭗ  ﭘ  ﭙ  ﭚ   ﭛ    ﭜ  ﭝ  ﭞ  ﭟ  ﭠ  ﭡﭢ  ﭣ  ﭤ  ﭥ   ﭦ  ﭧ  ﭨ  ﭩ  ﭪ  ﭫ  ﭬ  ﭭ  ﭼ (النساء: ١١٤) فمتى يعلم المنفق بأن البر يستعبد الحر؟ وأن الصدقة له كنز يدّخره لعقباه؟ وأن لكل امرىء من دنياه ما يعينه على عمارة أخراه؟ ومتى نستيقن بأن الصدقة صداق الجنة؟

أنفق ولا تخش إقلالاً فقد قُسمت

على العباد من الرحمن أرزاق

لا ينفع البخل مع دنيا مولية

ولا يضر مع الإقبال إنفاق

صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: ((الأكثرون هم الأسفلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وكسبه من طيب))([4]) وفي رواية: ((ويل للمكثرين إلا بمن قال بالمال هكذا وهكذا))([5]) والمكثرون هم الأغنياء ذوي المال الكثير.

وقد ضرب نبينا عليه الصلاة والسلام أروع الأمثلة في الصدقة، فها هو يبين منهجه فيها فيقول: (( ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبا تمضي علي ثالثة، وعندي منه دينار إلا شيئًا أرصده لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه ))([6]) ويتأكد جوده في رمضان خاصة، يروي ابن عباس رضي الله عنهما ذلك فيقول: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة))([7])، ولم يكن الأمر منه عليه السلام ادعاءً، بل هو واقع عمليّ جليّ، فقد ((سأله رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين فأتى الرجل قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر))([8]). فما بقاء المال بين حوائج الإنسان؛ وحوائج الزمان؟ ومتى ندرك أن الدرهم أنفذ الرسائل؛ وأنفع الوسائل؛ وأنجح المسائل؟ وأن من ثمرة الإحسان؛ كثرة الإخوان؟

وكيف لا يجود المسلم وهو يعلم أنه سيكون في ظل صدقته يوم القيامة؟ يوم تدنو الشمس من رؤوس الخلائق قدر ميل([9])، فيبلغ منهم العرق مبلغه، كلٌ بقدر ما قدّم، قال عليه السلام: ((وكل امريء في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس))([10])، ولا ريب أن لكل إنسان هنات وخطايا تستوجب العقوبة وغضب الجبار، فإذا آثر التصدق والإنفاق دخل في كنف قوله عليه الصلاة والسلام: ((والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار)) ([11]) و((صدقة السر تطفئ غضب الرب))([12]).

إن الصدقات في رمضان لها عدة خصوصيات: منها شرف الزمان والمكان؛ وخاصة إذا كانت في مكة، وكذا مضاعفة أجر العامل فيه. ومنها: إعانة الصائمين والقائمين والذاكرين على طاعتهم لله تعالى، فيستوجب المعين لهم مثل أجرهم: قَالَ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا))([13]).

والجمع بين الصيام والصدقة من موجبات الجنة، كما جاء بالحديث، ((إن في الجنة غرفة يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله لمن أطعم الطعام وألان الكلام وتابع الصيام وصلى والناس نيام))([14]). وأيضًا: فإن الصدقة تجبر ما في الصيام من الخلل، ولهذا وجب في آخر رمضان زكاة الفطر، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ)([15]) قال عبد العزيز بن عمير: "الصلاة تبلغك نصف الطريق، والصوم يبلغك باب الملك، والصدقة تدخلك عليه"([16]).

الصدقات سببٌ في دفَع الأمراضَ عن المتصدّق وأهلِ بيته، وتمنَع ميتةَ السّوء والآفات، قال عليه السلام: ((داوُوا مرضَاكم بالصّدقة))([17])، وقال: ((صنائعُ المعروف تقِي مصارعَ السوء والآفاتِ والهَلَكات))([18]). قال ابن أبي الجعد: "إن الصدقة تدفع سبعين باباً من السوء"([19]).

والمنفق المكثر يوقن بجزيل عطاء الله له فتتوق نفسه طمعًا فيما أعده له في الآخرة، قال رجل للحسن: "إني أكره الموت فقال الحسن: ذاك أنك أخرت مالك، ولو قدمته لسرك أن تلحق به"([20]). وعوتب سهل بن عبد الله المروزي في كثرة الصدقة فقال: "لو أن رجلا أراد أن ينتقل من دار إلى دار أكان يبقي في الأولى شيئًا؟"([21]).

في الناس صائم لا يجد كسرة خبز ولا مَذقةَ لبن ولا حِفنة تمر، في الناس صائم لا يجد بيتاً يؤويه ولا مركباً يحمله ولا صاحبًا يواسيه، في الناس صائم لا يجد ما يفطر به أو يتسحّر عليه. فالذي يرى الجياع أو يسمع عنهم وهو قادر على إطعامهم ولا يفعل فهو قاس القلب محروم، والذي يرى الملهوف ولا يعينه وهو قادر على ذلك محروم، والذي يرى اليتيم الذي فقد حنان الوالد وعطفه ولا يرحمه بإدخال السرور على نفسه محروم.

فماذا خسر أبو بكر الصديق رضي الله عنه الذي أنفق ماله كله في سبيل الله، ونصرة دين الله؟! وماذا خسر عمر رضي الله عنه وقد أنفق نصف ماله في سبيل الله ورفع كلمة الله؟! وماذا خسر عثمان وقد جهّز جيش العسرة بسبعمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، واشترى بئر رومة للمسلمين، ولا زال ينفق وينفق حتى قال النبي عليه السلام : ((ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم))([22]). والله ما خسر واحد منهم أبدًا، بل اشتروا بأموالهم جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.

وكم يجمل بنا أن نعرّج على ما كان عليه أهل مكة من عادات في السابق، فقد كانوا يكثرون من الولائم؛ وخاصة في رمضان([23])، بينما كان الولاة والسلاطين يتنافسون في الصدقة على فقراء الحرم؛ فقد أمر معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في خلافته ببناء بعض الدور بمكة منها: دار المراجل، وكانت مخزنًا لقدور عظيمة من صُفر، يطبخ فيها الطعام للحجاج في موسم الحج، وفي شهر رمضان لفقراء مكة([24])، وكان السلطان سليم خان العثمان كثير المحبة لأهل الحرمين قبل أخذه لمصر، وهو أول من بعث لهم صدقة الحب([25]). وكان سلطان الهند غياب الدين أعظم شاه، يبعث بصدقته إلى أهل الحرمين([26])، وكان المنصور يرسل كل سنة بصدقة عظيمة من اليمن إلى مكة مع علي بن خيلخان؛ يصل بها كل من كان في مكة من المجاورين ومن أهل مكة([27]). وفي سنة تسع وعشرين وثمانمائة بعث الأشرف برسِباي مركباً فيه قمح صدقة على أهل الحرمين([28]).

وكما أن الصدقة قد تسدّ كفاية المحتاج؛ لكننا لا نغفل جانب تهذيب روح الباذل، ورفعها إلى ذلك المستوى الكريم؛ لينظر إلى الدنيا على حقيقتها، فيتسامى عن الركون إليها رغبةً في الآخرة، وليدرك المنفق أن قيمة الإحسان ليست بكثرة المال، فرب تحيةٍ صادقة يلقيها على سائل أحبّ إليه من درهم، وغني القلب بالإنسانية هو الذي يتصدق مع المال بالعاطفة، ليحفظ ماء وجه السائل، ويضنّ له كرامته دون ابتذال، والشقي من يجمع لغيره، فيضن على نفسه بخيره، وهل البخيل إلا حارس نعمته، وخازن ورثته؟ أو يتصدّق مقابل مَنٍّ واستعلاء، فذلك كله خزي عليه ووبال، ولن يقبل الله إلا من المتقين المخلصين.

([1]) رواه مسلم (2742).

([2]) اقتباس من حديث رواه مسلم (1048).

([3]) رواه البخاري (5797)، ومسلم (2407).

([4]) رواه ابن ماجه (4120) وأصله في البخاري (6268) ومسلم (990).

([5]) رواه ابن ماجه (4119).

([6]) رواه البخاري (6444)، ومسلم (990).

([7]) رواه البخاري (6)، ومسلم (2308).

([8]) رواه مسلم (2312).

([9]) انظر: مسند الإمام أحمد (21162).

([10]) رواه أحمد (16695) والبيهقي في الشعب (3/212) وصححه الألباني في صحيح الترغيب (872).

([11]) رواه الترمذي (558)، وابن ماجه (4200)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (866)

([12]) رواه الترمذي (600)، وصححه بمجموع طرقه الألبانيُّ في الصحيحة (1908).

([13]) رواه الترمذي (735)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6414).

([14]) رواه أحمد (21831) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2123).

([15]) رواه أبو داود (1371) وصححه الألباني في صحيح الجامع (3570).

([16]) إحياء علوم الدين (1/226).

([17]) رواه البيهقي في السنن الكبرى (3/382) وقال الألباني في صحيح الترغيب (744): حسن لغيره.

([18]) رواه الحاكم في المستدرك (1/124) وصححه الألباني في صحيح الجامع (3795).

([19]) إحياء علوم الدين (1/226).

([20]) المجالسة وجواهر العلم لأبي بكر الدينوري (1/333).

([21]) أدب الدنيا والدين للماوردي (ص187).

([22]) رواه الترمذي (3634)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (2920).

([23]) انظر: التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم (6/269).

([24]) التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم (5/185).

([25]) منائح الكرم في أخبار مكة ووُلاة الحرم (3/224).

([26]) منائح الكرم في أخبار مكة ووُلاة الحرم (2/410).

([27]) إتحاف الورى بأخبار أم القرى (3/54).

([28]) إتحاف الورى بأخبار أم القرى (3/634).

Total6441796
زوار الموقع
المملكة العربية السعودية – مكة المكرمة ـ مخطط الحمراء الإضافي ـ النزهة الغربية الطريق الدائري ـ بجوار جامع السلام وملعب الكابتن ماجد
ص ب : 57571 الرمز البريدي : 21955

 

واتس آب : 00966506602821
5460608 - مفتاح المنطقة 012
5390101 مفتاح المنطقة 012
© 2025 بوابة تعظيم البلد الحرام