تبرّع الأن

إن من السعادة والحبور أن يعيش المرء في هذه الأجواء الإيمانية بين شرف الزمان والمكان، فقد اختار الله عز وجل "أم القرى" لتكون مهوى الأفئدة، وقبلة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛ لفضلها ومكانتها، والله يخلق ما يشاء ويختار.

أداء الصلاة في بلد الله الحرام يصل لك الحاضر بالماضي عبر حقب وأزمان؛ فهذه البقاع المباركة تحتفظ بجوهر شخصيتها منذ عرفها التاريخ، فلسنا نراها اليوم إلا كما رآها آباءٌ لنا وأجداد على تنائي الزمان، فهنيئا لسكان البلد الحرام تعظيم هذه البقعة الطاهرة في هذا الشهر الكريم بأداء ما افترضه الله عليهم.

إن أفضل الطاعات في الإسلام مطلقًا الصلاة، فهي عمود الدين وأسّه، وهي قرة العين، وهي الصلة بين العبد وربه، وهي أعظم ما يجلب الأجور ويأتي بالحسنات، بل ويمحو السيئات، جعلها الله قرّةً للعيون، ومفزعًا للمحزون، هي سرُّ النجاح وأصلُ الفلاح، وأوّلُ ما يحاسب عليه العبدُ يومَ القيامة، فإن صلَحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسَدت فقد خاب وخسِر. المحافظةُ عليها عنوان الصِدق والإيمان، والتهاون بها علامةُ الخذلان والخُسران. طريقُها معلوم، وسبيلُها مرسوم، من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاةً يوم القيامة؛ لهذه المنزلة والمكانة امتنّ الله على عباده المؤمنين في بلده الكريم بمضاعفتها، وهذا من أجلّ النعم؛ لأنها من أكثر الفرائض تكرارًا في اليوم والليلة ممّا يساعد في نيل الأجور وازديادها، فاغتنموا يا سكان بلده الحرام هذه المنة الربانية والمنحة الإلهية.

وقد ثبت في السنة الصحيحة أن الصلاة تضاعف في بلد الله الحرام بمئة ألف صلاة فيما سواه.

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام»([1]).

فهذا الحديث يدل على أن الصلاة بمسجده صلى الله عليه وسلم أفضل من الصلاة في سائر المساجد بألف صلاة ما عدا المسجد الحرام([2])، وهذا فضل عظيم من ربنا تبارك وتعالى.

فيا سعادة من جاور البيت العتيق وحافظ على الصلوات في الجمع والجماعات، فالصلاة رأس القربات، وغرة الطاعات، وهذه المضاعفة المذكورة في الحديث تشمل الصلوات مطلقا الفرائض والنوافل؛ لأن ظاهر الحديث لم يفرق بين النافلة والفريضة.

قال العراقي رحمه الله: (ظاهر الحديث أنه لا فرق في تضعيف الصلاة بين الفرض والنفل)([3]).

وهذا خير عظيم ينبغي اغتنامه هذه الأيام في صلاة التراويح.

وممّا يزيد في إثبات هذه المسألة – مضاعفة الصلوات - ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة اشتكت شكوى, فقالت: إن شفاني الله لأخرجن فلأصلين في بيت المقدس, فبرأت, ثم تجهزت تريد الخروج, فجاءت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تسلم عليها, فأخبرتها ذلك, فقالت: اجلسي، فكلي ما صنعت, وصلّي في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم, فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد, إلا مسجد الكعبة»([4]).

هذا الحديث يؤكد معنى الحديث السابق الدال على مضاعفة الصلوات في أم القرى، ومسجد الكعبة المراد به جميع الحرم كما قال ابن حجر([5]).

وهذا مثل قوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (المائدة: 95) فإن المراد بالآية وصوله إلى الحرم([6]).

عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم – في حديث الحديبية – قالا: (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الحرم وهو مضطرب في الحل).

وهذا يبيّن لك حرصه عليه الصلاة والسلام على هذا الأجر العظيم، وفي الخبر دلالة واضحة على أن مضاعفة الصلاة بمكة تتعلق بجميع الحرم, لا يخص بها المسجد الذي هو مكان الطواف([7]).

ومعنى مضطرب الحل: أي أن الحديبية بعضها من الحل وبعضها من الحرم، فكان عليه الصلاة والسلام إذا دخل وقت الصلاة انتقل من الحل إلى الحرم([8]).

وقد ثبت عن بعض السلف ما يدل على أن الصلاة تضاعف في جميع الحرم.

قال مجاهد رحمه الله: (رأيت عبد الله بن عمرو بن العاص بعرفة ومنزله في الحل, ومصلاه في الحرم, فقيل له: لم تفعل هذا؟ فقال: لأن العمل فيه أفضل)([9]).

وقال عطاء بن أبي رباح رحمه الله :(المسجد الحرام ما أحاطت به حدود الحرم)([10]).

في هذه الأحاديث دلالة واضحة على ما أكرم الله به –هذه البقعة الطاهرة – من مضاعفة الأجور، فالصلاة في أم القرى تساوي في الأجر مائة ألف صلاة، فما أعظمها من نعمة!

وما أجلها من عطية على كل من أدّى الصلاة في هذا البلد الأمين!

لذا ينبغي لمن وفَّقه الله لمجاورة بيته الكريم أن لا يفرِّط في هذه النعمة العظيمة بترك الصلاة مطلقا, أو التهاون فيها، أو التفريط في هذا الأجر؛ فإن هذا من أعظم قيم التعظيم في هذا البلد العتيق، "وما تقرب إليّ عبدي بأعظم مما افترضته عليه".

لقد ضرب سلفنا الصالح أروع الأمثلة في اغتنام هذا الأجر العظيم، فمن ذلك ما ورد عن قيس بن عاصم الثقفي قال: قلت: لسعيد بن المسيب لو خرجت مع قومك. فقال: (معاذ الله أن أترك خمسا وعشرين ومائة صلاة إلى خمس صلوات)([11]).

فابن المسيب اغتنم هذا الفضل، وقدّره حق قدره، وإن كلفه ذلك البعد عن قومه.

وكان أبو بكر بن عبد الرزاق المالكي كثير الخير والصلاح والورع، مجتهدًا في العبادة بحيث يستغرق فيها أوقاته، جاور بمكة بضعًا وعشرين سنة، ملازمًا للصلاة والطواف والصيام([12]).

وقال أبو بكر النقاش رحمه الله: (فحسبت ذلك على هذه الرواية، فبلغت صلاة واحدة في المسجد الحرام عُمْر خمس وخمسين سنة وستة أشهر وعشرين ليلة، وصلاة يوم وليلة في المسجد الحرام وهي خمس صلوات عُمْر مئتي سنة وسبعين سنة وسبعة أشهر وعشر ليالٍ)([13]).

ما أعظم هذا الأجر الذي امتنّ الله به على جيران بيت الله! فيا باغي الخير أقبل في هذا الشهر الكريم، واغتنم هذه الفرصة بأداء الفرائض والإكثار من النوافل وصلاة التراويح مع جموع المصلين، فإن في ذلك تكثير الحسنات، فالصلاة الواحدة في هذه البلدة المباركة تعدل أكثر من خمسين سنة، فبادروا.. وسارعوا قبل فوات الأوان.. وفقنا الله وإياكم لكل خير، ورزقنا حسن العمل.

([1])  أخرجه البخاري رقم: (1190)، ومسلم رقم: (1394).

([2])  شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام للفاسي (1/154- 155) بتصرف.

([3])  طرح التثريب (6/52)، و انظر: فتح الباري (3/82).

([4])  أخرجه مسلم رقم: (1396).

([5])  فتح الباري (3/64).

([6])  انظر: تفسير ابن كثير (3/194).

([7])  زاد المعاد لابن القيم (3 / 33 ).

([8])  المصدر السابق.

([9])  المصنف لعبد الرزاق (5/28).

([10])  أخبار مكة للفاكهي (2/106), وانظر: مسند الطيالسي رقم (1464).

([11])  الفتن لنعيم بن حماد المروزي (1/242).

([12])  العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين للفاسي (8/30).

([13]) مثير العزم الساكن لابن الجوزي (1/359) وانظر: شفاء الغرام للفاسي (1/171).

Total6441796
زوار الموقع
المملكة العربية السعودية – مكة المكرمة ـ مخطط الحمراء الإضافي ـ النزهة الغربية الطريق الدائري ـ بجوار جامع السلام وملعب الكابتن ماجد
ص ب : 57571 الرمز البريدي : 21955

 

واتس آب : 00966506602821
5460608 - مفتاح المنطقة 012
5390101 مفتاح المنطقة 012
© 2025 بوابة تعظيم البلد الحرام