عن أبي سَلَمَةَ بنِ عبدِ الرحمن بنِ عوف، قال: انطلقتُ إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه فقلتُ: ألا تخرجْ بنا إلى النخل نتحدثُ. فخرج، فقلت: حدِّثْني ما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر. قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عَشْرَ الأُوَلِ من رمضانَ واعتكفْنا معه، فأتاه جبريلُ، فقال: (إن الذي تطلبُ أمامَك).
فاعتكف العشرَ الأوسَطَ، فاعتكفْنا معه، فأتاه جبريلُ، فقال: (إن الذي تطلبُ أمامَك).
فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبًا صبيحةَ عشرين من رمضانَ، فقال: (من كان اعتكف مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلْيرجعْ؛ فإني أُرِيتُ ليلةَ القدر، وإني نَسِيتُها، وإنها في العشر الأواخر في وترٍ، وإني رأيت كأنِّي أسجدُ في طينٍ وماءٍ).
وكان سقفُ المسجدِ جريدَ النخْلِ، وما نرى في السماء شيئًا، فجاءت قَزَعَةٌ، فأُمْطِرنا، فصلى بنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى رأيتُ أَثَرَ الطينِ والماءِ على جبهةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأَرْنَبَتُه تصديقَ رؤياه([1]).
إنها الليلة العظيمة القدر عند الله سبحانه، حتى فخم أمرها في كتابه جاعلاً العبادة فيها خيرًا من عبادة ألف شهر.
ليلة القدر في القرآن:
- قال الله تعالى: ﴿حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِين (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِين (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيم﴾ [الدخان: 1-4].
- وقال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْر (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْر (3) تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْر (4) سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر﴾ [القدر: 1-5].
قال البغوي: ﴿إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ يعني القرآنَ، كناية عن غير مذكور، أنزله جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماءِ الدنيا، فوضعه في بيت العِزة، ثم كان ينزل به جبريلُ u نجومًا في عشرين سنة. ثم عجَّب نبيه فقال: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ سُمِّيتْ ليلةَ القدرِ لأنها ليلةُ تقديرِ الأمورِ والأحكامِ، يُقَدِّرُ اللهُ فيها أمرَ السنةِ في عبادِه وبلادِه إلى السنة المقبلة([2]).
لئن كان الزمان يتبارك بحلول شهر رمضان، والمكان يتبارك بدخول الحرم واجتيازِ حدودِه دخولاً إليه؛ فإن تلك الفضائل تجتمع وزيادة حين تحين ليلةٌ تَعْدِلُ العبادةُ فيها عبادةَ ما يزيد عن ثلاثةٍ وثمانين عامًا وأنت بمكة، فإذا أدركك ذلك الزمان وأنت فيها فقد تقرَّب إليك الخير، وتزاحمت عليك الفضائل، فما هو إلا الانطراح بين يدي الله تعالى.
ليلة القدر في السنة المطهرة:
- عن أنسِ بنِ مالكٍ t قال: دخل رمضان، فقال رسول الله r: (إن هذا الشهر قد حضرَكم وفيه ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فقد حُرِمَ الخيرَ كلَّه ولا يُحْرمُ خيرَها إلا محرومٌ)([3]).
- وعن أبي هريرة t أنّ رسول الله r قال: (من صامَ رمضانَ إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه)([4]).
- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي r إذا دخل العشر شَدَّ مِئْزَرَهُ، وأحيا ليلَه، وأيقظ أهلَه([5]).
قال ابن حجر: المراد: شد مِئْزرَه حقيقةً، فلم يَحُلَّه واعتزل النساء وشمَّر للعبادة([6]).
- وعن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي r في ليلة القدر: (ليلةٌ طَلْقةٌ، لا حارة ولا باردة، تصبح الشمس يومَها حمراءَ ضعيفةً)([7]).
إن السعادة كلها تنزل بمن وفقه الله لقيام ليلة القدر، إذ صح الخبر عن الصادق المصدوق - كما تقدم - أن من وفق لقيامها غفر له ما تقدم من ذنبه. نسأل الله من فضله.
نماذج عملية:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله: أرأيتَ إن علمتُ أيَّ ليلةٍ ليلةَ القدر، ما أقول فيها؟ قال: قولي: (اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعف عني)([8]).
إذا دخل شهر رمضان على عباد الله أظمأوا نهارهم، وأحيوا ليلهم، لكنهم إذا دخلت عليهم العشر الأخيرة لم يكن لهم بد من زيادة العمل وإحياء الليل، فلو رأيت أحدهم حين يسجد في تهجده في لحظات السحر الأعلى في تلك الليالي الفاضلة التي يطلب فيها التوفيق لليلة القدر= وهو يناجي ربه ويذرف دمعه باكيًا عليه ملحًا في دعائه أن يكون من الموفقين لها. فما إن يرفع رأسه إلا ودموعه تبلل خدَّه وهو يحسن الظَّن بربِّه أنَّه من أولئك الموفقين المقبولين.