من مظاهر جلالة بيت الله الحرام وتعظيمه؛ أنّ قلوب العباد تحنّ وتشتاق إليه، وتتمنى الوصول إليه مهما كانت الصعاب، وذلك كما قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125].
ولما هاجر المسلمون إلى المدينة وحصلت بينهم وبين المشركين معارك وحروب، ومنعوا من الوصول لبيت الله الحرام، اشتاقت نفوسهم له، وحنت أفئدتهم لجنبات البيت، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة من السنة السادسة الهجرية ومعه 1400 من أصحابه يريدون العمرة، وأحرموا من ذي الحليفة، وساقوا معهم الهدي، تعظيما لبيت الله وإجلالا، فلما علم مشركو مكة بذلك أرسلوا طليعة منهم إلى عسفان، فعلم بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فغيّر طريق سيره حتى لا يواجه المشركين؛ لأنه خرج يريد العمرة وتعظيم البيت، ولم يكن يريد القتال، وواصل المسلمون السير حتى بلغوا الحديبية، فبركت ناقته القصواء في الحديبية وأبت أن تسير، فعلم صلى الله عليه وسلم أنها حُبست عن السير بأمر الله تعالى، وقال عليه صلاة الله وسلامه: >والله لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها<.
ثم بدأت المفاوضات بينه وبين المشركين، حتى تم صلح الحديبية، على أن يرجع المسلمون هذا العام ويعتمروا في العام القادم، فنحروا هديهم، وحلقوا رؤوسهم، وتحللوا من عمرتهم، ونزلت على النبي صلى الله عليه وسلم سورة الفتح، وفيها البشارة له ولأصحابه أن سيدخلوا المسجد الحرام آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين لا يخافون.
وقد تحقق ذلك في ذي القعدة من السنة السابعة، حيث قدم المسلمون للعمرة، حسب الاتفاق المبرم في الحديبية، ودخلوا المسجد الحرام، وطافوا ببيت الله، وسعوا بين الصفا والمروة، ونحروا الهدي، وحلقوا رؤوسهم أو قصروا، وبقوا في مكة ثلاثة أيام، يستمتعون ببيت الله الحرام الذي حرموا منه سنوات عدة، ويقضون أوقاتهم بين طواف بالبيت، وصلاة في المسجد، وتلاوة القرآن، وذكر الله تعالى، ومشركو مكة تركوها خلال تلك الأيام وخرجوا منها حتى لا يروا المسلمين وهم يطوفون بالبيت الحرام، وكانوا يرقبونهم من الجبال، ويرون مظاهر تعظيم المسلمين لبيت الله وإجلاله، حتى إن بعض المشركين تحركت قلوبهم من رؤية تلك المشاهد الجليلة، وتسللت رغبة الدخول في الإسلام إلى قلوبهم، حتى إنه لم يمر على تلك العمرة عام إلا وقد صارت مكة أرض إسلام، ودخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون فاتحين معظمين لها، وطهروا بيت الله من رجس الشرك والوثنية، ودخل أهل مكة في دين الله أفواجا.
الباحث بمشروع تعظيم البلد الحرام