قسم الاحوال الشخصية و الجنايات
الجناية بنقل العدوى
جناية المريض بنقل العدوى إلى غيره لا يخلو من حالين:
الحالة الأولى: أن ينقل المريض المرض لغيره عن طريق الخطأ:
إذا نقل المريض المرض لغيره بعد علمه أنه مريض وأن مرضه معد وأن يتعين عليه اتباع إجراءات واحترازات معينة ثم خالفها خطأ أو نسيانا، وأدى ذلك إلى وفاة الشخص المُعْدَى، فحكم ذلك ما يلي:
لا خلاف بين أهل العلم أن الخطأ رافعٌ للإثم فيما بين العبد وربه؛ لقوله سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [سورة البقرة: 286].
وأما الحكم في حقوق الآدميين فلا تسقط إلا بالإسقاط، لكنها ليست سواء من حيث الموجب؛ ففي العمد القصاص أو الدية، وفي الخطأ الدية فقط.
وقد اتفق العلماء على أن القتل الخطأ تجب فيه الكفارة في ماله، والدية على عاقلته؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا} [سورة النساء: 92].
الحالة الثانية: أن يتعمد المريض نقل المرض لغيره
ولها صورتان:
الصورة الأولى: أن تكون الجناية على وجه الإفساد العام
إذا وقعت الجناية بنقل العدوى على وجه الإفساد العام، وكان هدفُ الناقل إشاعةَ هذا المرض بين المسلمين، فلا شك أنه آثم؛ لتعمده إيذاء الآخرين والإضرار بهم.
وهذه الصورة تعتبر من صور الفساد في الأرض، والحرابة التي ذكر الله سبحانه وتعالى حكمها في قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة المائدة: 33].
فمن سعى في الإفساد في الأرض بإشاعة المرض بين المسلمين فإنه يحُكم عليه بإحدى هذه العقوبات، إما القتل، أو القتل والصَّلب، أو تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، أو النفي من الأرض والإبعاد.
وهذا بحسب المرض الذي سعى في نقله بين الناس، وخطورته، وأثره.
الصورة الثانية: أن تكون الجناية على شخص معين:
وتندرج تحت هذه الصورة مسألتان:
المسألة الأولى: أن لا يؤدي تعمد نقل العدوى إلى موت المجني عليه:
فحينئذ يعزَّر المتسبب بما يناسب جُرمه، ومردّ ذلك إلى القاضي.
وقد يكون من التعزير إلزامُ الجاني بدفع تكاليف علاج من تعمد إصابته حتى يبرأ، وضمانُ ما أصابه من الضرر.
المسألة الثانية: أن يؤدي تعمد نقل العدوى إلى موت المجنيّ عليه:
تخرَّج هذه المسألة على مسألة إيجاب القود بالقتل بالسم؛ ووجه الشبه بين مسألتنا ومسألة القتل بالسم:
- أن كلا الصورتين من صور القتل الخفيّ.
- أن القتل فيهما قتلٌ بسبب، وليس بمباشرة.
- أن السم والفيروس يدخلان إلى بدن السليم، ويؤديان إلى موته في الغالب، وإن كان ليس في الحال.
وقد اختلف الفقهاء فيها على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن من سقى غيره سماً فتناوله بنفسه فمات؛ فلا قصاص عليه ولا دية، ولكنه يعزَّر على ذلك.
وهو مذهب جمهور الحنفية ، وقولٌ عند الشافعية ، ومذهب الظاهرية.
القول الثاني: أن من قدّم لغيره سماً فتناوله فمات، فهو شبه عمد.
وهو الأظهر عند الشافعية.
القول الثالث: أن القتل بالسم قتلُ عمدٍ يوجب القود بشرطه.
وهو قولٌ عند الحنفية ، ومذهب المالكية، وقولٌ عند الشافعية، ومذهب الحنابلة.
والراجح: وجوب القود على من تعمد القتل بالسم وهو قول الجمهور؛ سداً لذريعة القتل، وحفظاً للدماء التي جاءت الشريعة بتعظيمها وصيانتها.
وبناء عليه؛ فإذا تعمد المصاب بالمرض المعدي نقله إلى غيره، ومات المجني عليه، فإنه ينظر في حال المجني عليه، فإن كان من الفئة التي ذكر أهل الخبرة والاختصاص أنهم يهلكون غالبًا بانتقال المرض إليهم بسبب ضعف مناعتهم أو كبر سنهم ووجود الأمراض المزمنة لديهم كمرضى السكري والقلب والضغط فإنه يقاد من المتسبب في ذلك، إذا توفرت شروط القصاص الأخرى، كمن تعمد نقل فيروس مرض الإيدز ونحوه مما هو قاتلٌ في الغالب.
أما إن كان الفايروس لا يؤدي إلى موت من انتقل إليه غالبًا، ومات المجني عليه بسببه، ففيه دية شبه العمد عند من قال بوجوب القود إن كان مما يقتل غالبًا، والله سبحانه وتعالى أعلم.