قسم الطب و التداوي
حكم القدوم على بلدٍ فيها الوباء، أو الخروج منها فِرارًا منه
الأوبئة من الأمور التي عرفها الإنسان قديمًا، وقد سعى الإنسان بما منحه الله سبحانه وتعالى من عقل وعلم لمكافحتها والتقليل من أخطارها، وطوَر الكثير من اللقاحات والإجراءات الطبية لاستئصالها.
والإسلام بتشريعاته وهديه لا ينفصل عن حياة الناس وهمومهم وما يقلقهم، لذلك نجده يوجه الناس للتعامل مع جميع الحالات؛ العادية منها والطارئة التي تستدعي تعاملاً خاصًّا، ومن ذلك كيفية التعامل مع الأمراض الوبائية.
وقد ورد في السنة النبوية الكثير من الأحاديث التي توجه الأمة المسلمة للمنهاج الصحيح في التعامل مع الأمراض الوبائية إذا أصابت الناس، أو عمت في بلد ما؛ لتصحيح الاعتقادات والمفاهيم، وبيان الطريقة المثلى في التعامل معها.
ومن الأحاديث في هذا الموضوع:
- عن أبي هريرة رضي الله عنه، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا طِيَرة، ولا هامَةَ ولا صفر، وفِرَّ من المجذوم كما تفرُّ من الأسد" رواه البخاري.
- عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا عدوى ولا طِيرةَ، ويعجبني الفأل"، قالوا: وما الفأل؟ قال: "كلمةٌ طيبة" رواه البخاري ومسلم.
- عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يعدي شيء شيئًا، لا يعدي شيء شيئًا"، ثلاثًا، قال: فقام أعرابي، فقال: يا رسول الله، إن النقبة تكون بمشفر البعير، أو بعجبه، فتشتمل الإبل جربًا؟ قال: فسكت ساعةً، ثم قال: "ما أعدى الأول؟ لا عدوى، ولا صفر، ولا هامة، خلق الله كل نفس، فكتب حياتها وموتها، ومصيباتها ورزقها"، و(النقبة): أول شيء يظهر من الجرب، (مشفر البعير): المشفر للبعير كالشفة للإنسان، (بعجبه): العظم الذي في أسفل الظهر، (فتشتمل الإبل): تعم الإبل، رواه أحمد، والألباني في السلسة الصحيحة.
- عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يورد ممرض على مصح" رواه مسلم، أي: لا يورد صاحب إبل مراض إبله على الماء وقت ورود الإبل الصحاح، اتقاء للشر، وحتى لا تصاب الصحيحة بما أصيبت به المريضة.
والأحاديث السابقة توجه الأمة إلى التالي:
أولا: أن مخالطة السليم للمريض أحد أسباب انتقال المرض، ولكنه ليس السبب الوحيد لذلك، وذلك إبطالًا لما كان يعتقده الناس في الجاهلية أن المرض يعدي بنفسه وينتقل من الصحيح إلى المريض بطبعه دون تقدير الله سبحانه وتعالى لذلك أو مشيئته، وذلك بمجرد مخالطة الصحيح للمريض، واعتبار ذلك المسبب الوحيد للإصابة بالمرض.
فجاء النهي في الحديث عن مثل هذا الاعتقاد الباطل في الإصابة بالمرض في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا طيرة"، فالمنهي عنه في الأحاديث التي تنفي العدوى يقصد منه؛ النهي عن الاعتقاد الخاطئ في العدوى الذي يظن صاحبه أن الإصابة بالمرض تنتقل بطبعها وبذاتها من شخص لآخر بمجرد المخالطة؛ فقد يقرب الصحيح من المريض ولا يصيبه شيء، وقد يقرب ويصاب، وقد يصاب ابتداء دون مخالطة أحد.
فمجرد مقاربة المريض أو القدوم على المحل الموبوء لا يلزم منه الإصابة بالمرض، لأن انتقال المرض بيد الله سبحانه وتعالى وحده.
ثانيا: في نَهْيِه صلى الله عليه وسلم من اقتراب الصحيح من المجذوم إثبات للأسباب التي قد تفضي للمرض، فالمرض قد ينتقل من شخص إلى آخر، وينتقل من المريض إلى السليم إذا شاء الله سبحانه وتعالى ذلك وقدره؛ ولأن مشيئة الله سبحانه وتعالى التي يقدرها الله سبحانه وتعالى على عباده لا يعلمها الخلق جاء التحذير من اقتراب الصحيح من المجذوم من باب اتقاء الشر والأخذ بالأسباب التي قدرها الله سبحانه وتعالى بأنها تفضي إلى المرض، لا استقلالاً بطبعها.
ثالثاً: هذا الهدي النبوي في التعامل مع الأمراض الوبائية جاء الطب الحديث بتأكيده، حيث إن الشخص قد يصاب بالمرض من خلال اتصال العوامل المسببة للمرض من بكتيريا وفيروسات أو طفيليات بإنسان صحيح وإحداثه الأثر المرضي، لكن المرض في الواقع لا يحدث إلا ضمن شروط معينة يجب توفرها.
وتنتقل العوامل المسببة للمرض من مكمنها إلى الإنسان إما مباشرة من إنسان مريض أو حامل له إلى مستعد للعدوى، أو بشكل غير مباشر عن طريق الماء أو الغذاء أو الأغراض الملوثة، أو بواسطة الحشرات، كما يشترط لإصابة الصحيح بالمرض وجود عوامل بيئة مناسبة تزيد من نسبة إصابة الشخص به.
لذلك فإن الهدي النبوي في التعامل مع الأمراض الوبائية سبق العلم الحديث في بعض حقائقه.
رابعًا: في الأحاديث منع أي شخص من دخول المناطق التي انتشر فيها نوع من الوباء، والاختلاط بأهلها، وكذلك يمنع أهل تلك المناطق من الخروج منها، سواء أكان الشخص مصابًا بهذا الوباء أم لا؛ لأن الشخص الذي يكون في مكان الوباء عند وقوعه وإن كان سليمًا في الظاهر إلا أنه قد يكون حاملاً للمرض وهو لا يدري، غير أن آثار المرض لا تظهر عليه؛ لأن مناعته قوية، أو العامل المسبب للمرض ضعيف في بدنه، لكنه حامل له.
والشخص الحامل للمرض قد ينقل المرض لغيره؛ لذلك من حكمة الشريعة النهي عن الخروج من أرض الوباء لبلد أخرى وإن كان سليمًا في الظاهر.
والخلاصة: أن مخالطة السليم للمريض أحد أسباب إصابة السليم به ولا يكون ذلك إلا بأمر الله سبحانه وتعالى ومشيئته، ووفقًا سبحانه وتعالى مع تظافر الأسباب الأخرى التي قدرها الله سبحانه وتعالى، ولكن الاعتماد على الأسباب وحْدَها ينافي تمام التوكل على الله سبحانه وتعالى، وإنكارها كلِّية قدْح في الحِكْمة، والإعراض عنها نقْصٌ في العقل، والصحيح إنزال الأسباب حيث أنزلها الله سبحانه وتعالى، وأنها من عوامل انتقال المرض إذا شاء الله سبحانه وتعالى ذلك، لكنها لا تستقل بذلك دون إرادة الله سبحانه وتعالى ومشيئته.
رابط مراجع تلخيص المسألة