قسم الطب و التداوي
حكم اختيار الطبيب من يقدّم له الرعاية الصحيّة من المصابين بالوباء عند التزاحم.
إذا وصل المصاب بفيروس كورونا (كوفيد-19) إلى الحالات المتقدمة، فإنه يحتاج إلى الدخول للمستشفى، وقد يكون من ضمن علاجه وضعه على أجهزة التنفس الصناعي، ومع كثرة المصابين فإنه قد يحصل تزاحم على هذه الأجهزة لمحدوديتها، فهل للطبيب أن يختار من يقدم له هذه الأجهزة؟
هناك فرق بين إيقاف الطبيب لعلاج المريض، وامتناع الطبيب عن علاج المريض، وكل منهما ينبني عليه أحكام فقهية، منها:
- لا يجوز إيقاف أجهزة التنفس عن المريض إذا ترجّح أن ذلك يؤدي إلى وفاته، ولا ينظر في هذه الحالة لأي مرجحات بين المريض السابق واللاحق؛ لأن الإيقاف عن السابق هنا هو فعل محرّم يسبب الوفاة، فلا يقدم عليه لأجل شخص ترجى حياته، أو أصغر سنًا من المريض؛ لأن حفظ النفوس من ضرورات الشريعة التي يستوي فيها المسلمون (المسلمون تتكافأ دماؤهم) كما جاء في الحديث الصحيح، فلا يحل الاعتداء على نفس لأجل غيرها.
- يجوز إيقاف التنفس الصناعي إذا ترجّح أنه لا يؤدي إلى وفاة المريض، كأن يكون بقاؤه عليه من باب الاحتياط، ولا يتضرر برفعه، فلأجل مزاحمة مرضى هم أحوج إلى الجهاز، يسوغ إيقاف التنفس الصناعي عنه لغلبة السلامة.
- إذا تساوت الاحتمالات، فلا يعرف هل إيقاف الجهاز يؤدي إلى وفاة المريض أو لا؛ ففي هذه الحالة لا يتم إيقاف التنفس الصناعي؛ لأنه لم يؤمن الضرر، لكن إذا كان التزاحم شديدًا فيمكن إعادة النظر في هذه الصورة بعرضها على الفقهاء ليجتهدوا في حكمها، على اعتبار أن السببية لم تثبت في الإضرار بالمريض والضرر العام على غيره كبير، فقد يكون فيها رخصة خاصة في هذه الظروف.
المرجحات المعتبرة شرعًا في الترجيح بين الحالات -كمبادئ عامة:
- الأسبق: فالسبق له تأثير في التقديم عند التزاحم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه" (متفق عليه).
فالقاعدة عند الفقهاء: أنه لا يقدم أحد على أحد إلا بمرجح، وله أسباب، الأول: السبق -كما قال الزركشي-. - الأحوج: فهناك مرضى حاجتهم للتنفس الصناعي والعلاج أشد من غيرهم، وهناك من ضرره أشد من غيره، فيرجح الأحوج.
- زيادة المصلحة مع كونها معتبرة شرعًا: فإذا تعارضت المصالح قدّم الأعلى، وإذا تعارضت المفاسد دفعنا المفسدة الأعلى، فينظر إلى رجاء البرء ورجاء الحياة بسبب العلاج، فيقدّم من ينتفع بالعلاج أكثر مع تساويهم في السبق.
- ليس من المرجحات تقديم الأنفع للمجتمع، أو الأصغر سنًا، أو صاحب الجاه والمكانة؛ لأنها أمور غير منضبطة وغير مؤثرة في باب حفظ النفوس، فهذه الأمور قد تعتبر فيما يقصد به النفع العام كالتقديم عند التزاحم في الولايات، لكنها غير معتبرة في هذا الباب لأنّ المقصود فيه حفظ النفوس، والتقديم بغير مرجح معتبر شرعًا يعد ظلمًا، وفيه إيغار للصدور، وإعمال لأمور غير منضبطة خلافاً لمنهج الشرع.
- احترام النفس وحفظها أمر يستوي فيه كل الناس، والشريعة لم تفرّق بين نفوس المسلمين، فالنفوس درجة واحدة، الكبير والصغير، الغني والفقير، ذوي الاحتياجات الخاصة والأمراض العقلية وغيرهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" (حديث صحيح رواه أبو داود).
يمكن للطبيب الامتناع عن مواصلة علاج المريض السابق لأجل المريض اللاحق الذي هو أحوج منه بشروط يجب أن يتحقق جميعها:
- أن يكون العلاج مما يعطى للمريض السابق بشكل متقطّع زمنياً، كجلسات غسيل الكلى، أما إذا كان العلاج مما يعطى بشكل دائم متواصل، -كالتنفس الصناعي-، فغير جائز إيقافه كما تقدّم.
- أن لا يؤدي الامتناع عن مواصلة علاج المريض السابق إلى وفاة المريض أو إحداث ضرر شديد له.
- أن تسمح حالة المريض السابق بإعادة العلاج له إذا احتاجه، ويكفي كون حالته تسمح بذلك نظريًا بغض النظر هل يتوقّع عمليا توفّر الجهاز أم لا، لأنّ القصد هنا ألاّ يكون الامتناع هو المؤثّر في وفاته، فنخلّ بحقّه الثابت له بالسبق للجهاز، فالحالات التي لا يمكن نظريًا إعادة العلاج لها بعد الامتناع عنه هي حالات تستحقّ مواصلة المعالجة نظرًا للسبق، بخلاف من يستغني ثم يتجدّد له الاحتياج فيكون هو ومن وصل متأخراً بمنزلة واحدة.