أولًا: منهج الإسلام في التعامل مع الأوبئة:
للوباء أضرارٌ خطيرة، – بما في ذلك وباء كورونا المستجد كوفيد 19 – حيث يتضرر منه جميع الناس، فيقع على المسلم والكافر، والبر والفاجر، وإن من سنن الله سبحانه وتعالى أن الأوبئة إذا انتشرت لا تفرق بين كافر ومؤمن، لكن الإنسان هو من يفرق في سعيه لدفع الوباء ورفعه، فنجد المسلم يجمع بين الأخذ بالأسباب الدينية الشرعية والأسباب الدنيوية التجريبية – ولا تعارض بينهما لا شرعًا ولا عقلًا ولا حسًّا-.
وقد حث الإسلام على الأخذ بالأسباب الدينية والدنيوية مع التوكل على الله سبحانه وتعالى، في دفع مكروه أو جلب محبوب، وإن ذلك من كمال الشريعة الغرّاء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قَدح في الشرع، وإنما التوكل المأمور به ما اجتمع فيه مقتضى التوحيد والعقل والشرع".
وقال ابن القيم رحمه الله: "وفي الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع داء الجوع، والعطش، والحر، والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرًا وشرعًا، وأنّ تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجزًا ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلًا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلًا، ولا توكله عجزًا".
إذًا فالجمع بين الأخذ بالأسباب الدينية والدنيوية منهج رباني نبوي، ومن خلال النظر إلى الأسباب الشرعية والأسباب التي حث عليها الطب الحديث والعلم التجريبي، نجد أن كل سبب حث عليه العلم الحديث له علاقة بالشرع الحنيف، سواء كانت تلك العلاقة مباشرة أو غير مباشرة، وهذا إن دل فإنما يدل على إحكام في الخلق والأمر، وحكمة من الخلق والأمر، وفي أقل الأحول لا تجد تعارضًا بين الأسباب الشرعية والأسباب العلمية التجريبية، وبناءً على هذه العلاقة بين الأسباب بنوعيها، فإننا سنذكر فيما يلي بعضًا من أسباب دفع الوباء المستنبطة من الشريعة الإسلامية:
- صدق اللجوء الى الله سبحانه وتعالى ودعائه أن يرفع البلاء ويدفعه، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم إني أعوذ بك من البرص، والجنون، والجذام، ومن سيّئ الأسقام"، رواه أبو داود في سننه بهذا اللفظ، حديث رقم: (1554)، وقال الألباني معلِّقًا: (صحيح).
ففي الحديث استعاذة من سيّئ الأسقام، وهي الأمراض المنفّرة المعدية، فيدخل في ذلك وباء كورونا؛ لأنه يوجب النفرة لسرعة انتشاره وخطورته.
قال ابن القيم رحمه الله: " كذلك الدعاء، فإنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول المطلوب".
- تقوى الله سبحانه وتعالى القائل في مُحكمِ تنزيله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (سورة الأحزاب: 70)، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا﴾ (سورة الطلاق: 2).
وقد عرف العلماء التقوى بأكثر من عشر تعريفات لعل أحسنها ما ذكره طلق بن حبيب: إذا وقعت الفتن، فأطفئوها بالتقوى، قالوا: وما التقوى؟ قال: هي أن تعمل بطاعة الله على نورٍ من الله رجاءَ رحمة الله، والتقوى ترك معاصي الله على نورٍ من الله مخافةَ عذاب الله؛ رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" برقم (30993)، وهو أثر صحيح
- قيام الفرد بما أوجبته الشريعة في حفظ النفس وصيانتها، حيث جعل ذلك من مقاصد الشريعة الإسلامية الضرورية الكُبرى، فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ (سورة البقرة: 195)، وأوصى بالنظافة بشكلٍ عامٍّ كغسل اليدين والأنف وغسل جميع البدن ونظافة البيت والأفنية وغير ذلك، فديننا دينُ النظافة كما قال سبحانه وتعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (سورة المدثر: 4)، وعن أبي مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: قال رسول لله صلى الله عليه وسلم: "الطهور شطر الأيمان" رواه مسلم بلفظه، حديث رقم: (1).
والأدلة من القرآن والسنة متواترة على مشروعية التطهُّر، وفي ذلك وقاية من الأمراض والأوبئة المنتشرة بما في ذلك وباء كورونا المستجد، وهذا ما أوصت به الهيئات والجهات الصحية، للحد من انتشار الفايروس.
- الحجر الصحي: وهو عزلُ المريض الـمُصاب بنوع من الأمراض الوبائية عن بقية الأصحاء طيلة فترة حضانة المرض، ووضعه تحت الرقابة الطبية الدقيقة إلى أن تنتهي هذه الفترة، وقد سبق دينُ الإسلام العالم كله بتقرير مبدأ الحجر الصحي الذي لم يعرفه العالم إلا في العصور المتأخرة، ووضع النبي صلى الله عليه وسلم منهجًا للتعامل مع مثل ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عن الطاعون: " إن هذا الوجع رجز أو عذاب أو بقية عذاب عُذِّبَ به أناسٌ من قبلكم، فإذا كان بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا منها وإذا بلغكم أنه بأرض فلا تدخلوها "، أخرجه مسلم بلفظه، حديث رقم: (97)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عنه أبو هريرة رضي الله عنه: "لا عدوى ولا طِيَرة، ولا هامة ولا صَفَر، وفرَّ من المجذوم كما تفرَّ من الأسد"، أخرجه البخاري بلفظه، حديث رقم: (5707)، وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا يُورِدُ مُمْرِضٌ علَى مُصِحٍّ"، أخرجه البخاري بلفظه، حديث رقم: (5771)، أي: لا يُؤتَى بمريض على صحيحٍ سليم؛ مخافةَ أن ينتقل إليه المرض.
وعلى هذا دأب الصحابة رضي الله عنهم ، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "مرَّ على امرأة مجذومة تطوف بالبيت، فقال: يا أمة الله، اقعدي في بيتك، ولا تؤذي الناس، فلما توفي عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتت، فقيل لها: هلك الذي كان ينهاك عن الخروج، قالت: والله لا أطيعه حيًّا وأعصيه ميتًا"، (موطأ الإمام مالك برواية الإمام محمد بن الحسن رحمهما الله).
كما يندرج الحجرُ الصحي أيضًا تحت عدد من القواعد الفقهية، مثل قاعدة: "لا ضرر ولا ضرار" فيمنع شرعًا مخالطةُ المريض مرضًا وبائيًّا للأصحاء، لدفع ضرر الأمراض الوبائية عمومًا.
ومثل قاعدة: "الضرر يدفع بقدر الإمكان"، فهذه القاعدة تفيد وجوب دفع الضرر قبل وقوعه بكل الوسائل والإمكانيات المتاحة، وفقًا لقاعدة المصالح المرسلة والسياسة الشرعية، فهي من باب الوقاية خيرٌ من العلاج، ويكون ذلك بتعميم الإجراءات الوقائية لدفع الإصابة بالأمراض الوبائية، وبالحجر الصحي على المرضى والحاملين للمرض.
ويعتبر الحجر الصحي من الأسباب الشرعية، كما أنه من الأسباب الدنيوية التجريبية النظرية التي تتخذها الحكومات والدول، في الحد من انتشار فيروس كورونا المستجد.
- على المسلم التوبة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى في كل حال، وعليه في هذه الأوقات الاجتهاد في ذلك، فهذا ابن العماد في شذرات الذهب، (5/ 208)، يسُوق لنا هذا الحَدَث التاريخي الذي وقع سنة: 449 هجري، فيقول: (سنة تسع وأربعين وأربعمائة فيها كما قال في «الشذور» وبقيت الأسواق فارغة والبيوت خالية، ووقع الوباء بأذربيجان وأعمالها، والأهواز وأعمالها، وواسط، والكوفة، وطَبَق الأرض، حتّى كان يحفر للعشرين والثلاثين زبية فيلقون فيها، وكان سببه الجوع، .....، وتاب الناس كلّهم، وأراقوا الخمور،..... وتصدَّقوا بمعظم أموالهم، ولزموا المساجد، .....).
- صنائع المعروف كما أن على المسلم التقرُّب إلى الله سبحانه وتعالى بالطاعات، كالصدَقة وبذل الإحسان، فإن لذلك تأثيرًا عظيمًا في دفع البلاء، فقد أخرج الطبراني في الأوسط، حديث رقم: (943)، عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والصدقة خفيا تطفئ غضب الرب...." (حسّنه الألباني، حديث رقم: 3797).
قال ابن القيم رحمه الله:" فإن للصدقة تأثيرًا عجيبًا في دفع أنواع البلاء ولو كانت من فاجر أو من ظالم بل من كافر، فإن الله تعالى يدفع بها عنه أنواعًا من البلاء، وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض كلهم مقرون به لأنهم جربوه".
وقال رحمه الله:" ومن أعظم علاجات المرض فعل الخير، والإحسان، والذِّكر، والدعاء، والتضرع، والابتهال إلى الله، والتوبة، ولهذه الأمور تأثير في دفع العلل وحصول الشفاء أعظم من الأدوية الطبيعية، ولكن بحسب استعداد النفس، وقبولها، وعقيدتها في ذلك ونفعه".
وفي مثل هذه الأوضاع التي نعيشها وفقدان كثير من الناس أعمالهم ووظائفهم يتعيّن على كل قادرٍ أن يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى أولًا ببذل المال، وسدّ الحاجة فهذا واجب ديني ووطني تتطلبه المرحلة ولعله من أقوى أسباب انكشاف الغمة وزوال الأزمة إن شاء الله تعالى.
- المحافظة على الأدعية النبوية الواردة في التحصين، والتي منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم ثلاث مرات، فيضره شيء" أخرجه الترمذي في سننه بلفظه من حديث عثمان رضي الله عنه، حديث رقم: (3388)، وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وقال صلى الله عليه وسلم: " من اصْطَبح بسبع تمرات عجوة، لم يضره ذلك اليوم سم، ولا سحر" رواه البخاري بلفظه من حديث سعد رضي الله عنه، حديث رقم: (5779).
- وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم إني أعوذ بك من البرص، والجنون، والجذام، ومن سيئ الأسقام"، رواه أبو داود في سننه بلفظه من حديث أنس رضي الله عنه، حديث رقم: (1554)، وقال الألباني معلِّقًا: (صحيح).
فبالمحافظة على الأوراد الشرعية والتوجيهات النبوية، والتي منها الدعاء الذي يقال قبل نزول البلاء، والتعوُّذ من جهد البلاء، والمحافظة على دعاء الخروج من المنزل، وسؤال الله سبحانه وتعالى العافية عند الصباح والمساء، والمحافظة على قيام الليل فإنه مطردةٌ للداءِ عن الجسد، فمن حافظ على هذه الأوراد وغيرها مما حث عليها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وَجَد أثر ذلك في حياته، من جلب خير أو دفع ضرٍ وبلاء.
- استجابة المسلم لتوجيه الشريعة له بالصبر على البلاء إن أصابه والثقة بأن أمره كله خير والتوكل على الله سبحانه وتعالى مع الأخذ بالأسباب من علاج ونحوه إلى غير ذلك.
ثانيًا: القواعد الفقهية المؤثرة على جائحة كورونا:
جاءت الشريعة الإسلامية بقواعد عامة ظهر أثرها على جميع أحكامها، ومن هذه القواعد قاعدة لا ضرر ولا ضرار والقواعد الفرعية المندرجة تحتها.
وتعتبر قاعدة: (لا ضرر ولا ضرار) من أهم القواعد وأجلها شأنا في الفقه الإسلامي، ولها تطبيقات واسعة في جميع المجالات الفقهية، بل إن هذه القاعدة من أركان الشريعة، وفيها من الفقه ما لا حصر له، ولعلها تتضمن نصفه، فإن الأحكام إنما شرعت لجلب المنافع أو دفع المضار، وهذه القاعدة أساس في دفع العمل الضار، وهي عمدة الفقهاء وميزانهم في تقرير الأحكام الشرعية للحوادث والنوازل. فيدخل فيها دفع الضرر عن الضروريات الخمس التي هي حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال.
لذا كان معتمد الفقهاء في الاجتهاد في الحوادث الطارئة عن جائحة وباء فايروس كورونا المستجد (كوفيد-19) هو هذه القاعدة التي دلت عليها نصوص الكتاب والسنة وعللت بها كثير من الأحكام الفقهية.
ذلـك أن مـن أهـم مسـالك الاجتهـاد التي انتهجها العلماء، تتبع طريقــة الشــارع فــي حكمــه لجزئيــات كثيــرة فــي الشــريعة، فلاحظــوا اشــتراكها فـي علـة أحكامهـا، فصاغـوا منهـا أحكاما كلية تجمع تلك الجزئيات فكانت بمثابة القواعد العامة التي تؤثر على الاجتهاد في جميع الحوادث والنوازل الطارئة، بل وسببا في استيعاب الفقه الإسلامي للاجتهاد في أدق تفاصيلها.
وقد حرص الإسلام على رفع الضرر عن العبد بعد وقوعه، كما حرص على دفعه قبل وقوعه بشتى الوسائل والأساليب الناجعة والإجراءات والتدابير الرادعة؛ مما يحقق للعبد المصلحة، ويدفع عنه المفسدة وفقاً لنظرية المصالح والمفاسد التي تقتضيها المقاصد الشرعية لحفظ نفس العبد ودينه وعرضه وعقله وماله
وتنفي هذه القاعدة الضرر وتوجب منعه وتحريمه مطلقا سواء كان ضررا عاما أو خاصا, ودفع الضرر قبل وقوعه بالتدابير التي تزيل آثاره وتمنع تكراره, ومن أمثلة تطبيق هذه القاعدة :
- تفعيل نظام الحجر الصحي لدفع ضرر الأمراض المعدية عموما.
- منع التجمعات إذا أدت إلى انتشار الوباء حتى لو كانت للجمع والجماعات.
- تقييد الحركة وعزل المدن التي عم فيها البلاء.
لذا نجد أن قاعدة: ( لا ضرر ولا ضرار) أو قاعدة: (الضرر يزال) أو قاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات) أو قاعدة: (درء المفاسد أولى من جلب المصالح) قواعد في غاية الأهمية لتحقيق المقاصد الشرعية في المحافظة على الضروريات الخمس وأن الإنسان لا يجوز له أن يلحق الضرر بغيره مقابل انتفاعه هو بحقه.
ومن هنا نلحظ أن هذه القواعد توفر الراحة للعبد، وتبين له ما يجب عليه فعله وما لا يجب متى كان هذا الفعل يلحق الضرر بالآخرين، وإن كان حقاً خالصاً له؛ فهذه القواعد تنظم شؤون العباد وتضع الأسس المثلى والضوابط الجيدة لتعامل بعضهم مع بعض.
ثالثًا: مسؤولية الفرد تجاه التكليف والواجبات:
المسؤولية كما عرَّفها مجمع اللغة العربية: "هي شعور الإنسان بالتزامه أخلاقيًّا بنتائج أعماله الإدارية، فيحاسب عليها إن خيرًا وإن شرًّا".
إن من القيم العظيمة التي أرساها الإسلام ودعا إليها وربى أتباعه عليها تحمل المسؤولية، وقد خاطب في ذلك الأفراد والمجتمع والأمة، وجعل القيام بهذه المسؤولية سبباً للفوز في الدنيا والآخرة.
وقد أقسم الله في كتابه الكريم على أن الناس جميعا في خسارة إلا من حقق أربع صفات مهمة فقال سبحانه : ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [سورة العصر:1-3].
إن الشعور بالمسؤولية والقيام بها وأدائها على أكمل وجه يجب أن يصبح في حياتنا خلقاً وسلوكاً وضرورةً تمارس في واقع الحياة حتى لا يحدث التساهل في الواجبات، وحتى لا تضيع الحقوق، وحتى تنجز الأعمال وتنجح المشروعات وتسود الأخلاق وقيم الخير في المجتمع.
فاستشعار رُوح المسؤولية يعتبر جزءًا من منظومة القيم في التشريع الإسلامي.
فهي من الأسباب التي تُرسخ مبادئ المواطَنة الصَّالحة، والمتمثِّلة في المشاركة الفعالة والإيجابيَّة في تنمية الوطن والمجتمع، والمحافظة على تماسكهما واستقرارهما، ومساعدتهما على مواجهة الحالات الطارئة التي تستدعي تعاملًا خاصًّا.
لذلك فإنَّ مستقبل المجتمعات وتطورها واستقرارها يعتمد على مدى دعم ونشر منظومة القِيَم والمبادئ والأخلاق التي تختارُها الأمم لنفسها، وهذا ما يجعلنا نتنبأ بمآل المجتمعات ومصيرها، بقياس ذلك على مدى التزامها بالقيم وتحلِّيها بالمسؤولية تجاه تكاليفها الدينية والدنيوية، فكلما زادت القيم ترابطًا ازداد المجتمع تماسكًا، وكلما قلَّتْ قلَّ تماسكُه.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم أن التزام الإنسان بالمسؤوليات والتكاليف التي تسند إليه مسؤول عنه في الآخرة وذلك في قوله: ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)، رواه البخاري في صحيحه.
وتتعدد المسؤولية في حياة الإنسان، فهي أنواع وأشكال؛ من أهمها:
- المسؤولية البدنية والجسدية: وفي الحديث: (إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ) رواه البخاري في صحيحه.
- المسؤولية الإيمانية: في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخْلَق الثوب؛ فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم)، رواه الطبراني والحاكم، وحسنه الألباني.
- المسؤولية الأبوية: في قوله تعالى: ﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [سورة البقرة: 83].
- مسؤولية الراعي: في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الإمامُ راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته)، صحيح البخاري.
- مسؤولية الرعية: في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (السمع والطاعة حقٌّ ما لم يؤمر بالمعصية)، صحيح البخاري.
- المسؤولية الأسرية: (والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجِها ومسؤولةٌ عن رعيتها)، صحيح البخاري.
- المسؤولية المجتمعية: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينةٍ، فأصاب بعضُهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقَوا من الماء، مرُّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقًا، ولم نؤذِ مَن فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم، نجوا ونجوا جميعًا)، رواه البخاري.
- المسؤولية الجماعية: في قول الله تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ﴾ [سورة الروم: 41].
- المسؤولية الطبيعية: في قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (في كل كبد رطبة أجر)، رواه مسلم.
- المسؤولية الحياتية: في قول الله تعالى: ﴿ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾ [سورة هود: 61].
- المسؤولية الأخروية: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [سورة الزلزلة: 7، 8].
فكل هذه المسؤوليات تعتبر من الدين سواء كان تحملها يحقق ثماره في الدنيا أو في الآخرة لأن الإنسان وإن كان مطلوبا منه العمل لآخرته فهو مطالب ومسؤول عن الحفاظ على حياته الدنيوية؛ لأنها طريقه لجنات الخلد إن حافظ وانقاد للتكاليف الشرعية والنظامية التي تصلح أمر دينه ودنياه. قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [سورة الأنعام: 162].
رابعًا: الجهود الاحترازية التي وضعتها المملكة العربية السعودية للحدِّ من انتشار هذا المرض والوقاية منه بمشيئة الله سبحانه وتعالى:
اتخذت المملكة العربية السعودية بقيادة الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود حفظه الله سبحانه وتعالى، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان حفظه الله سبحانه وتعالى، عددًا من التدابير الاحترازية والتي ستُساعد في التخلُّص والوقاية من هذا الوباء بمشيئة الله سبحانه وتعالى، فوفّرت المطهّرات، وجهَّزت المستشفيات، ومنعت التجمُّعات، وحظرت التجول، ووفَّرت البدائل عن طريق استخدام التطبيقات الذكيَّة، كما جعلت هناك فِرقًا من وزارة التجارة لمتابعة أسعار ما يحتاجه المـستهلك في هذه الفترة، وأمرت بإيقاف صلاة الجمعة والجماعة في المساجد عدا الحرمين الشريفين في ظل هذه الظروف بناءً على قرار هيئة كِبار العلماء، رقم: (247)، والذي أباحت فيه الهيئة مثل هذه الإجراءات بسبب العذر والخوف من المرض، وأوصت المملكة باتّباع أساليب الوقاية من عدم ملامسة ومخالطة الآخرين، وغير ذلك من الجهود التي تبذلها الدولة حفظها الله سبحانه وتعالى للمحافظة على سلامة المواطنين والمقيمين داخل أراضيها، كما تبذل جهودها مع العالم في التصدِّي لمواجهة هذه الجائحة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرفع البلاء ويرحم العِباد والبلاد.
خامسا: واجبنا تجاه الجهات المختصة:
قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ} (سورة النساء: 59)، فيجب علينا توقير ولاة أمْرِنا وتعزيزهم والامتثال لما أصدروا من الأوامر، وعدم الانقياد وراء الشائعات، كما يتعين علينا العمل معهم يدًا واحدة للمحافظة على أَمْنِ وأمانِ البلاد.